أحمد جمال | حباء شحادة | زينب مصري
لحظات قليلة كانت الحد الفاصل بين نجاة الأم وطفلتها، وموتهما اختناقًا، جراء الغارة الجوية على قرية الرامي في الشمال الغربي لجبل الزاوية بريف إدلب، الغارة التي استهدفت البناء الذي تقطنه العائلة، وأصابت الطابق السفلي الذي كانت تحتمي فيه.
أَمل حسين الناصر، الزوج والأب المكلوم، أن تخرج زوجته وطفلته حيّتين من تحت الأنقاض، لكن تأخر وصول المسعفين وفرق “الدفاع المدني” بسبب القصف المزدوج، وتحليق الطيران الحربي، واستهداف فرق الإسعاف والكوادر الطبية، حال دون ذلك.
يروي حسين تفاصيل الغارة التي ضربت منزل عائلته في الأسبوع الأول من تشرين الثاني الماضي لعنب بلدي، ويقول، “كانتا على قيد الحياة لكن تأخر عناصر “الدفاع المدني” بالوصول، ولم نستطع إخراجهما من تحت الركام”.
الحملة الروسية والاستهداف الممنهج للمنشآت والمراكز الطبية منذ بداية العام الحالي راح ضحيتهما الأم وطفلتها، بالإضافة إلى نحو مئة قتيل، وتسببا أيضًا بنزوح ما يقارب مليون سوري توافدوا من ريف حماة وإدلب الشرقيين وريف إدلب الجنوبي إلى الريف الشمالي بإدلب، بحسب ما وثقه فريق “منسقو الاستجابة” في الشمال السوري.
إضافة إلى ذلك، تسبب نقص الدعم للقطاع الطبي، بتراجع عمل المشافي والنقاط الطبية في شمال غربي سوريا، ما قلل وصول قسم كبير من المقيمين والنازحين في المنطقة إلى الخدمات الطبية اللازمة.
تسلط عنب بلدي الضوء في هذا الملف على ثلاث أزمات تهدد القطاع الطبي شمال غربي سوريا، من الاستهداف الروسي الممنهج إلى نقص الدعم مرورًا بأزمة المحروقات، وتحاول توضيح الخيارات التي من شأنها أن تقلل وطأة أزمة تعصف بأحد أهم القطاعات الحيوية في آخر معقل للمعارضة السورية.
أربعون نقطة طبية خارج الخدمة
استهداف ممنهج ينهك القطاع الطبي في إدلب
وثق “الدفاع المدني” استهداف أكثر من 40 مشفى أو مركزًا أو نقطة طبية في ريف إدلب الجنوبي منذ نيسان الماضي، جميع تلك النقاط باتت خارج الخدمة بعد تدميرها بشكل كامل من قبل الطيران الحربي الروسي والسوري والمروحي.
ونتيجة ذلك، بات ريف إدلب الجنوبي شبه خالٍ من أي نقطة طبية، بحسب مدير قطاع “الدفاع المدني” في إدلب، مصطفى الحاج يوسف، الذي أكد لعنب بلدي أن جميع النقاط الطبية والكوادر الإسعافية ومراكز “الدفاع المدني” وفرق الإنقاذ “ملاحقة ومستهدفة”.
أدى ذلك إلى صعوبة في تحرك المنقذين، كما منع “الدفاع المدني” في المنطقة من اعتماد مراكز ثابتة تجنبًا لرصدها من الطيران الحربي والاستطلاع.
كما أدى التصعيد الجوي الروسي على المنطقة، وتركيزه على استهداف الأحياء السكنية والقطاعات الخدمية بشكل ممنهج إلى خلو المنطقة من معظم السكان، الذين فروا إلى مناطق شبه آمنة بالقرب من الحدود التركية هربًا من القصف، بحسب الحاج يوسف.
ووصل عدد العائلات النازحة من ريف إدلب الجنوبي خلال تشرين الثاني الماضي، إلى 11 ألفًا و252 عائلة، أي 61 ألفًا و229 نازحًا، وفق “منسقو الاستجابة”.
تزداد معاناة المدنيين المتبقين في ريف إدلب الجنوبي، مع غياب شبه تام للمراكز الطبية والمشافي التي يحتاج إليها السكان المتبقون في تلك المنطقة، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذي يدفعهم الواقع الصعب إلى قطع مسافات واسعة إلى مناطق أخرى للحصول على العلاج اللازم.
ذلك الأمر ينطبق على المصابين بالقصف الجوي والصاروخي في المناطق الساخنة، إذ تكمن المأساة بخلو تلك المناطق من المشافي والنقاط الطبية وفي ملاحقة الطيران للكوادر الطبية والإسعافية بشكل دقيق، ليضطر المصابون للانتقال إلى أقرب نقطة طبية بقطع مسافات قد تصل إلى 30 أو 40 كيلومترًا، وفق مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج.
روسيا تتعمد استهداف المشافي
يتحمل الطيران الروسي المسؤولية الكبرى في تركيزه على استهداف المشافي والنقاط والكوادر الطبية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، عبر الإحداثيات التي ينقلها طيران الاستطلاع الذي يسبق الغارات الجوية، بينما يتحمل النظام السوري المسؤولية الأقل في تلك الاستهدافات، بحسب مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج.
وقال حلاج في حديث لعنب بلدي، “نلاحظ أن استهداف القطاع الطبي في مناطق المعارضة وخاصة في إدلب، يكون عادة موزعًا بنسبة 86٪ للطيران الحربي الروسي، ونسبة 14٪ للطيران الحربي والمروحي السوري”، وهو ما ينطبق مؤخرًا على الحالة في أرياف إدلب الجنوبية والغربية والشرقية في الحملة المتواصلة عليها في الفترة الحالية.
وثق فريق “منسقو الاستجابة” 80 استهدافًا للمنشآت والنقاط الطبية بما فيها الكوادر الإسعافية في محافظة إدلب من قبل الطيران الروسي والسوري منذ بداية العام الحالي، منها منشآت تعرضت لقصف متكرر بفترات مختلفة ونسب أضرار متفاوتة، كان أحدثها استهداف ستة مشاف وثلاثة مراكز صحة وثلاث سيارات إسعاف خلال تشرين الثاني الماضي، بحسب حلاج.
جرائم حرب
يقول المحلل العسكري العقيد أحمد حمادي، إن استهداف المشافي المدنية والنقاط الطبية بكل أنواعها يعد جريمة حرب بالعرف والقانون الدوليين، وعادة ما ترفع أعلام المنظمات الإنسانية “الصليب أو الهلال الأحمر” فوق النقاط الطبية الموجودة في القطع العسكرية التي تقدم العلاج للجرحى والمصابين خاصة في حالة الحرب وذلك لمنع قصفها من الطيران الحربي.
ويضيف حمادي، “أما في الحالة السورية فنرى كل القواعد والقوانين الدولية مغيبة تمامًا، بمعنى أن الأسلحة المحرمة دوليًا (النابالم والفوسفور والقنابل الارتجاجية) يتم استخدامها ضد المدنيين”، ويعلق، “هذه الأسلحة يحرّم استخدمها ضد القوات المقاتلة والقطعات العسكرية، فما حال استخدامها تجاه المناطق السكنية والمدنيين، هذه جريمة حرب بالعرف والقانون الدوليين، وهذا يدل على أن روسيا والنظام ينطبق عليهما صفة مجرمي حرب لاستهدافهما المراكز الحيوية والمدنيين”.
تهدف روسيا وحليفها الأسد من خلال سياسة التدمير الممنهج للمنشآت الحيوية وخاصة الطبية إلى محو جميع مقومات الحياة في مناطق المعارضة، وحرمان المدنيين من أي أمل بالعودة إلى أحيائهم ومنازلهم ومن أي ثبات في أرضهم، عبر سياسة تهجير متعمدة من الحليفين، بحسب حمادي.
سياسة مستمرة..
من يردع الروس؟
اتبعت روسيا في حملاتها العسكرية الداعمة للنظام في مناطق المعارضة السابقة في سوريا سياسة استهداف المراكز الحيوية والخدمية بشكل ممنهج، من المشافي والنقاط الطبية والمدارس والأفران إلى محطات المياه ومراكز “الدفاع المدني” وفرق الإسعاف.
وتتجلى ملامح تلك الاستهدافات في أحياء مدينة حلب الشرقية والغوطة الشرقية ووادي بردى وريف دمشق وأرياف حمص، وغيرها من مناطق سوريا، وهو ما وثقته تقارير إعلامية وحقوقية.
غير أن الإفلات من أي عقاب ومحاسبة دولية لروسيا (الحليف الأول للنظام السوري) يجعلها تستمر في تنفيذ “جرائم الحرب”، المتمثلة باستهداف المنشآت الحيوية والمراكز الطبية وقتل المدنيين بمن فيهم الأطفال، في عموم المناطق التي مرت عليها الآلة العسكرية الروسية، وفق العقيد أحمد حمادي، الذي يعبر عن ذلك بقوله، “من أمن العقاب أساء الأدب”.
هل من مساءلة وعقاب؟
تنص القوانين الدولية المنبثقة عن اتفاقيات “جنيف” و”لاهاي” على حماية المنشآت الطبية بجميع صفاتها المدنية وكذلك العسكرية التي تقدم العلاج للعسكريين من أي طرف، وتمنع أيضًا استهداف القطع العسكرية القريبة من النقاط الطبية، وتُلزم الدول الموقعة عليها بما فيها روسيا تطبيق تلك الاتفاقيات مقابل المحاسبة بتهم خرق القوانين، بحسب مدير البرنامج السوري للتطوير القانوني، إبراهيم علبي.
ويقول علبي في حديث لعنب بلدي، إن “تقديم العلاج للقوات المعادية خلال المعارك لا يفقد هذه المرافق الطبية حمايتها، واستهداف قطع ونقاط عسكرية قريبة من المرافق الطبية يعتبر من الضرر غير المتناسب مع الفائدة العسكرية”.
لكن “روسيا لا تلتزم بتطبيق القانون الدولي الإنساني المنبثق عن الاتفاقيات الدولية رغم أنها ملزمة بتطبيقه”، وفق علبي، لا سيما أن منظمة “الدفاع المدني السوري”، ومنظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة وفريق “منسقو استجابة سوريا”، وثقت في جميع تقاريرها استهداف منشآت طبية مدنية وبعيدة عن المناطق والجبهات العسكرية.
يؤكد استمرار روسيا في مهاجمة المراكز الحيوية والخدمية والأحياء السكنية في مناطق المعارضة وخاصة في الشمال السوري، غياب المحاسبة الدولية لروسيا على خرقها للقوانين والاتفاقيات التي تمنع قصف المنشآت الطبية بجميع أشكالها، وفق علبي، الذي يقول إن “القانون الدولي صنيعة الدول وبالتالي فهو يتحرك بحسب الرغبة السياسية لتلك الدول”، بحسب تعبيره.
ويرى علبي أن محاكمة روسيا على تلك الجرائم والخروقات قد تكون بإدانتها دوليًا وبأسلوب العقوبات الدولية عليها، وإظهارها بمظهر الدولة المخترقة لتلك القوانين والمعاهدات الدولية.
ورغم أن محكمة الجنايات الدولية (لاهاي) لا تملك سلطة على روسيا، قد تكون هناك محاكمة محلية في المستقبل، بينما يشير علبي إلى أن المحاسبة القانونية والقضائية بالمعنى الدقيق قد تكون صعبة في وضع روسيا، لأنها ليست طرفًا في محكمة الجنايات الدولية و”ليست هناك رغبة لمحاسبتها ضمن المحاكم الدولية”
استهداف مشافي إدلب يفتح سجالًا روسيًا أمميًا
تخضع الهجمات الروسية على المواقع الطبية والخدمية في شمالي سوريا لتحقيق من قبل منظمة “الأمم المتحدة”، بطلب من عشرة أعضاء في مجلس الأمن، بناءً على تحقيق خاص نشرته صحيفة “The New York Times” في 13 من تشرين الأول الماضي، وسط ضعوط روسية على المنظمة لكتم نتائج التحقيق.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، للصحيفة، إن الأمم المتحدة ما زالت تدرس كيفية التعامل مع نتائج التحقيق، الذي من المفترض أن يكتمل مع نهاية العام.
واقتصر التحقيق الأممي، الذي بدأ مطلع آب الماضي، على سبعة مواقع فقط، وفقًا لوثائق خاصة اطلعت عليها الصحيفة الأمريكية، بعد تصريحات المتحدث باسم مكتب المفوض الأعلى لحقوق الإنسان، روبرت كولفيل، في 8 من تشرين الثاني الماضي، أن عدد المنشآت الطبية المستهدفة بلغ 61 منشأة.
واعتمدت الصحيفة الأمريكية في تحقيقها الذي تبنته الأمم المتحدة على اتصالات أجراها سلاح الجو الروسي في أثناء قصفه منشآت طبية في شمالي سوريا، من خلال فك رموز آلاف من موجات بث الراديو التابع للقوات الروسية بعد أن وثقت نشاط الطيارين الروس خلال أشهر.
ويظهر التحقيق قصف الطائرات الروسية أربعة مشافٍ في مناطق المعارضة السورية بإدلب، منها قصف لمستشفى “نبض الحياة” في بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، في 5 من أيار الماضي، ويظهر طبيبًا يوثق الضرر الذي يلحق بالمستشفى ومعداته الطبية.
ووفقًا للصحيفة، فإن الغارات الجوية الروسية استهدفت أربعة مشافٍ خلال 12 ساعة فقط، في أيار الماضي، قائلة إنها حصلت على مجموعة كبيرة من الأدلة لتحليل تفجيرات المستشفيات التي وقعت في يومي 5 و6 من الشهر ذاته، وتأكيدات صوتية من قبل الطيارين الروس بقصف كل مشفى من المشافي الأربعة.
التحقيق الذي تبنته الأمم المتحدة يلفت إلى أن الطيران الروسي قصف وبشكل متكرر المشافي وذلك “لسحق من تبقى من المعارضة” و”لدعم نظام الأسد”، إذ يظهر الفيديو المرفق بالتحقيق أن القصف الروسي تركز في شمالي سوريا، خاصة في إدلب، وبعضه توزع بين حمص واللاذقية.
واستعانت الصحيفة الأمريكية في تحقيقها بتصريحات شهود عيان وعاملين في مراصد حركة الطيران الحربي، وتسجيلات صوتية لسلاح الجو الروسي، ما اعتبرته “إثباتًا لتورط طيارين روس بشن كل هذه الغارات”.
لكن روسيا ضغطت على الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حتى لا تنشر نتائج التحقيق الخاص باستهداف المشافي في مناطق المعارضة في سوريا، وفق ما نقلته “The New York Times” عن دبلوماسيين مطلعين في ذلك الوقت.
وذكرت الصحيفة أن روسيا رفضت التعليق على الاتهامات المتعلقة بضغطها على الأمين العام للأمم المتحدة، لإبقاء التحقيق الأممي سرًا.
وعلق السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، في 16 من أيلول الماضي، على التقارير المتعلقة بالدور الروسي في استهداف المشافي السورية، نافيًا التهم الموجهة للحملة العسكرية التي يشنها النظام السوري وحليفته روسيا على ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي منذ شباط الماضي.
وقال السفير الروسي، حينها، “لا أحد ينكر وجود المدنيين في إدلب، وأنهم يعيشون في ظروف صعبة، بعضهم ينزح للمرة الثانية أو حتى الثالثة، ولكن لا توجد طريقة أخرى لإنهاء معاناتهم إلا عبر تحرير هذه المنطقة من الجهاديين، الذين يقومون باستخدام هؤلاء المدنيين كدرع لحماية مواقعهم الخاصة”.
لكن مديرة منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان”، سوزانا سيركين، وصفت التحقيق الأممي بـ “الفاقد للعمق والسعة”، للإجابة عن سبب تعرض المنشآت المدنية للقصف وتحديد هوية الجاني.
في حين قال مدير منظمة “هيومن رايتس وواتش”، لويس شاربونو، للصحيفة، “للضحايا وعائلاتهم وللعالم بأكمله الحق بمعرفة الحقائق، السكوت لن يؤدي إلا لزيادة جرأة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا”.
وكانت صحيفة “تلغراف” البريطانية ذكرت، في 30 من أيار الماضي، أن الأمم المتحدة زودت النظام السوري وروسيا بإحداثيات المشافي والمنظمات غير الحكومية العاملة في إدلب.
وسبق أن وثقت منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان”، في تقريرها الصادر في 30 من حزيران الماضي، نحو 566 هجومًا منفصلًا على 348 منشأة طبية في سوريا منذ عام 2011 حتى 2019، ومقتل 900 عامل طبي خلال الهجمات.
بلا قذائف.. تراجع الدعم يهدد بإغلاق المشافي
ما لم تصبه القذائف والصواريخ من منشآت صحية في إدلب واجه تهديد الإغلاق وتحجيم الخدمات بفعل نقص الدعم وغياب المواد الأساسية لدوام العمل، ما خلق أزمات إضافية لقسم كبير من سكان المحافظة.
تروي روعة حشاش، من أهالي ريف المعرة الشرقي، لعنب بلدي معاناتها ورحلة البحث عن مشفى يوفر العلاج المناسب لطفلتها شفاء، التي تعرضت لكسر في أضلاع الصدر، ما سبب لها جرحًا في الرئة ونزيفًا شديدًا.
تقول الوالدة، إن الطفلة اشتكت من آلام شديدة في الصدر بينما كانت العائلة في زيارة لقرية المشرفية التي تقع غربي سلقين بحوالي سبعة كيلومترات، نُقلت على إثرها إلى مستوصف معصران، حيث تم إخبار الوالدين أن الطفلة تحتاج إلى طبيب اختصاصي لإجراء جراحة صدرية، ومن هناك تم تحويلهم إلى باب الهوى.
لبعد المسافة، اختار الأبوان الذهاب إلى إدلب، وبعد مراجعة عدة مراكز طبية، أُرسلوا إلى مركز رعاية السل لإجراء تحاليل وفحوصات لم يستطع الوالدان تحمل تكلفتها، فاختاروا الذهاب إلى أحد مشافي بلدة دركوش.
وجدت العائلة الطبيب المختص وتمت عملية الطفلة بنجاح، لكنها أصيبت بـ “ذات الرئة”، بسبب الاكتظاظ بالمشفى. المرض الجديد شكل تحديًا كبيرًا أمام الوالدين اللذين تركا منزلهما في ريف المعرة الشرقي، جنوبي إدلب، وبقيا إلى جانب شفاء برفقة شقيقتها الرضيعة التي تحتاج إلى رعاية خاصة من والدتها.
أُجبر الوالدان على التناوب على رعاية الطفلتين، أحدهما يرعى الطفلة المريضة في المشفى بينما يحاول الثاني رعاية الطفلة الرضيعة في السيارة المركونة بجانب المشفى، لمدة تقارب الشهر والنصف، بعيدًا عن منطقتهم التي تخلو من المشافي ومراكز الرعاية الطبية.
“زاد النقص نقصًا”
اجتمعت عوامل عدة لتعقيد رحلة علاج الطفلة شفاء، فمن استهداف المشافي جنوبي إدلب، إلى نقص الخدمات الطبية في المدينة نتيجة تراجع دعم المنظمات، إلى التلوث الذي أصابها بسبب اكتظاظ مشفى دركوش.
مدير مكتب “الجمعية الطبية السورية الأمريكية” (SAMS) في تركيا، الدكتور مازن كوارة، يقول لعنب بلدي، إن عدم استجابة المانحين للأزمة الأخيرة، والذين لم يكن دعمهم للقطاع الصحي والطبي كافيًا منذ سنوات، “زاد النقص نقصًا”.
فزيادة الاحتياجات الصحية التي فرضتها الحملة العسكرية، بسبب الإصابات والنزوح وظروف المعيشة الصعبة، لم تقابل برفع مستوى الدعم، بل بتراجع شكل فجوة “حرجة” في التمويل، بلغت 11.2 مليون دولار، حتى 14 من تشرين الثاني الماضي.
لا مشافي بلا محروقات
أصدرت مديرية صحة إدلب بيانًا، في 28 من تشرين الثاني الماضي، حذرت فيه من خطر انقطاع المحروقات، وخاصة مادة الديزل لتشغيل المولدات الكهربائية، على استمرار عمل مشافي محافظة إدلب ومنشآتها الطبية.
وذكرت في بيانها أن انعدام وجود المحروقات، وأسعارها “الباهظة” إن وجدت، يهددان بـ “كارثة إنسانية”، بسبب توقف الأقسام والمرافق المنقذة للحياة عن العمل، من غرف العمليات والعناية المركزة وحواضن الأطفال ومراكز غسيل الكلى ومنظومة الإسعاف.
وقال نائب مدير مديرية صحة إدلب، مصطفى العيدو، لعنب بلدي، إن مشافي إدلب، البالغ عددها 53، مهددة كلها بالإغلاق في حال لم يتوفر الحل العاجل.
وأشار العيدو إلى أن قدرة المواطن على الحصول على الخدمة الطبية باتت “صعبة وصعبة جدًا” مقارنة بالفترة السابقة، جراء الظروف الحالية، من دوام الحملة العسكرية وغياب الوقود.
وترافقت مع معاناة مشافي جنوبي إدلب من الاستهداف بالقصف، معاناة مشافي الشمال من العبء المتزايد، جراء ضغط أعداد النازحين الجدد، الذين بلغوا نحو مليون منذ بداية الحملة وفقًا لإحصائيات فريق “منسقو الاستجابة”، ما وضع مديرية الصحة أمام “مشكلة مركبة”، حسبما قال العيدو.
وأضاف ألا خيار سوى عرض المشاكل على المجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة طلبًا للدعم، إذ يحتاج القطاع الصحي قرابة عشرة ملايين دولار شهريًا، حسب تقديره، “لا تستطيع المديرية تأمينها”.
فجوة تمويل
ورغم تحويل الجهات الفاعلة في مجال الصحة مسار الموارد والأدوية والمستلزمات الطبية، لتلبية الاحتياجات الصحية الناجمة عن القتال المستمر في الشمال الغربي، إلا أنها لم تغطها بالكامل، حسبما ذكر تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة الذي صدر في 14 من تشرين الثاني الماضي.
وبلغت فجوة التمويل المطلوب للقطاع الصحي في سوريا 354 مليون دولار، مع تسلّمه 21% من تبرعات المانحين، بانخفاض وصل إلى 300 مليون دولار مقارنة مع العام الماضي.
وعزا مدير السلامة في اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية (UOSSM)، الطبيب أحمد الدبيس، تراجع التمويل، إلى السياسة العامة للمنظمات الدولية، التي تقضي باستجابة “كبيرة” خلال السنوات الخمس الأولى من الحروب، ثم تنتقل لدعم الاستقرار في حال حدوثه، وإن لم يحصل تقوم بتعليق أنشطتها وتتجه لمناطق أخرى.
وأضاف الدبيس، في حديثه لعنب بلدي، أن الدعم مستمر للقطاع الصحي، مع انخفاض ملحوظ بنسبة المانحين، الذين شملوا دول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية والعربية.
وكان من أسباب ابتعاد المانحين، حسب توقع الدبيس، استمرار العنف والاستهداف المتكرر للمنشآت الصحية رغم انتقالها من مكان لآخر واتخاذها إجراءات الحماية، ما دفع بعض المنظمات الداعمة لليأس وإغلاق مراكزها الطبية.
ووجود الفصائل المسلحة المختلفة وتدخلها بعضها بالعمل الإنساني، وتصنيف أخرى تحت لوائح “الإرهاب”، دفع “الكثير” من المانحين لتعليق أنشطتهم أو إيقافها في المنطقة.
خسارات ونقص..
ما الرعاية الطبية المتوفرة في إدلب؟
مع امتلاك إدلب معظم الاختصاصات لتوفير الرعاية الطبية، إلا أنها تفتقد لعدد من الخدمات، وتعاني من قلة الأطباء المتمرسين، إذ لا يتوفر اختصاص جراحة القلب والأوعية الدموية، ولا مراكز لعلاج السرطان بشقيه الكيماوي والشعاعي، ولا يتجاوز عدد الأطباء المختصين بالغدد الصم اثنين، وكذلك حال أطباء أمراض الكلى، ويوجد فقط نحو أربعة أطباء للجراحة العصبية.
وتسبب قلة الأطباء “ضغطًا” عليهم، وتأخيرًا لعلاج المرضى، الذين يضطرون للانتظار شهرًا أو اثنين للحصول على الخدمة، بسبب “كثرة” أعداد الإصابات، حسبما قال مدير السلامة في “اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية” (UOSSM)، الطبيب أحمد الدبيس، وكذلك الأمر بالنسبة للحصول على خدمات أجهزة الرنين المغناطيسي، التي لا يتوفر منها سوى جهاز أو اثنين، وبتكلفة لا يحتملها كل المرضى.
وأشار مدير مكتب “SAMS” في تركيا، الدكتور مازن كوارة، إلى أن المشافي الباقية في ريف إدلب الجنوبي، مثل مشفى “المعرة المركزي”، تعاني من “الإرهاق” رغم قلة عدد السكان الباقين في المنطقة، وذلك لاختفاء المراكز الطبية حولها.
وأضاف كوارة أن الجراحات التخصصية بشكل عام تعتبر مفقودة في إدلب، مع وجود مركز واحد لعلاج الأورام، دون أن يشمل أنواعها كافة، ووجود نقص عام في الأدوية والاحتياجات الطبية.
أين العلاج؟
يقود نقص المنشآت الطبية والدعم إلى انخفاض الخدمات كمًا ونوعًا، وهذا ينعكس على ازدياد حالة المرضى سوءًا وتزايد الوفيات جراء الإصابات.
ولا يملك المرضى سوى خيارين عند عدم تمكنهم من الحصول على الخدمات الطبية، حسبما قال مدير مكتب “الجمعية الطبية السورية الأمريكية” (SAMS) في تركيا، الدكتور مازن كوارة، إما الاتجاه إلى تركيا، وهو ما يتطلب شروطًا خاصة للحالات التي لا يتوفر لها علاج في إدلب والمهددة للحياة، أو التوجه إلى مناطق سيطرة النظام، وهو الخيار الذي لا يسلكه سوى من لا يخشى من الملاحقة الأمنية.
وحسب تقرير لمبادرة “REACH” الطبية التابعة للأمم المتحدة، نشر في آب الماضي، استطلعت خلاله توفر المنشآت الصحية والأدوية في 922 منطقة ضمن شمال غربي سوريا، فإن سكان 696 منطقة يعاني قاطنوها من مشاكل في الحصول على الخدمات الطبية، 55% منهم بسبب عم توفر مراكز طبية في منطقتهم، و39% بسبب نقص وسائل النقل التي قد تمكنهم من الوصول إلى المراكز، و38% بسبب ارتفاع تكاليف النقل.
وقال سكان 81 من المناطق، إنهم يستخدمون طرقًا شخصية للتعامل مع نقص الخدمات الطبية، 43% منهم أعادوا استخدام المواد الطبية، و43% استخدموا أدوية منخفضة الجودة و42% استخدموا مواد غير طبية للعلاج.
واقترح الدكتور أحمد الدبيس، مدير الأمن والسلامة في “UOSSM”، أن يعالج ضغط المشافي في شمالي إدلب باستيعاب الكوادر الصحية التي تشتتت وهُجرت من مناطق الجنوب، إن كان بسبب دمار المنشآت التي كانوا يعملون بها أو لتعليق أعمالها، مع الاستفادة من البنية التحتية للمنشآت الطبية التي عُلقت أعمالها أو تغير مكان إقامتها، لزيادة القدرة التشغيلية للمشافي.
وأضاف الدبيس أن مديريات الصحة في إدلب وحماة وريف حلب واللاذقية تدرس فكرة تشغيل المنشآت الطبية بأسلوب “العمل الخيري”، لتتمكن من تمويل نفسها بنفسها عن طريق تقاضي أجور رمزية من المستفيدين من خدماتها، مثل الصور الشعاعية وصور الطبقي المحوري أو الرنين المغناطيسي أو التحاليل المخبرية أو الخدمات الاستشارية، مع مراعاة الحالة المادية للمرضى.
واعتبر الدبيس أن تلك الطريقة يمكن أن تضمن عمل المنشأت وعدم توقفها وسد فجوة التمويل.