نسمة دمشقية في ستراسبورغ

  • 2019/12/01
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

من حي الشيخ محيي الدين بن عربي على سفح قاسيون، هبت علينا أصوات الناس والباعة والحياة التي كانت عامرة بالدفء وبالإيمان عبر مسرحية “مولانا” لنوار بلبل التي قدّمها، في 24 من تشرين الثاني الماضي، على مسرح قصر الموسيقى في ستراسبورغ الفرنسية، وبدعم من منظمة ثقافة البحر الأبيض المتوسط الأوروبية.

قدّم نوار بلبل مسرحيته بطريقة المونو دراما، المبنية على الممثل الوحيد، الطريقة التي تألقت في دمشق على يدي زيناتي قدسية ممثلًا، وممدوح عدوان كاتبًا، إذ قدما الكثير من المسرحيات مثل مونو دراما “الزبال” على خشبة المسرح القومي، وكان هذا الثنائي المسرحي قد شدّ إليه الأنظار عبر العالم العربي، وأحيا الموات المسرحي الذي تناهى إلى التهريج في كثير من أطرافه.

تتحدث مسرحية مولانا عن قصة جنون الشاب عابد بن الشيخ زين العابدين القائم على قبر الشيخ محيي الدين بن عربي، فتبدأ المسرحية في لحظة الجنون وتنتهي بها تمامًا، وما بين هذا الجنون وذاك يروي لنا عابد قصته ومعاناته التي كابدها في شبابه، سواء من أبيه الذي يضربه بقسوة، أو من التشرد، أو من الكبت الجنسي الشديد الذي يعاني منه عندما يرى فتيات فرنسيات يتعلمن اللغة العربية ويرقصن في ساحة بيتهن غير آبهات بالتحفظ والتشدد التربوي والديني المحيط بهما.

الشاب يحب الشيخ محيي الدين ويتضرع إليه من أجل الخلاص مما هو فيه، وتتضرع إلى الشيخ أيضًا زوجة أحد المسؤولين، التي تأتي إلى قبر الشيخ كل أسبوع من أجل طلب الغفران والعفو لأنها مارست الزنا كل مرة.

أما الأب، القائم على أمور قبر ومزار الشيخ محيي الدين، فهو لا يحب طريقة ولا مذهب الشيخ، وعلاقته بالضريح علاقة منفعة وكسب لمال التبرعات، بالإضافة إلى طموحه أن يورّث الضريح ومكاسبه إلى ابنه من بعده ليكسب من الأموال المتدفقة على الضريح كتبرعات وهبات.

كانت حركات الممثل جزءًا مهمًا من المسرحية وإغناءً لها، فقد اتسمت حركات نوار بلبل الذي يقوم بدور الممثل الوحيد عابد بالفعالية والمرونة، فالضريح يتحول إلى مرسم، والبحرة تتحول إلى قدر لطهو الطعام للجياع، وتتدفق حركات الممثل لإقناعنا بالفعل الذي يتحول إلى حقيقة، إذ يكاد بخار الطبخ أن يتصاعد إلى أنوفنا وهو يصيح على الجياع ويصف حالتهم، وسرعان ما يندفع عابد إلى البيت من أجل أن يجلب الطعام لأحد الجوعى الذي وصل بعد انتهاء الطعام، لكن الجائع يطعم اللحم للقطة الجائعة أمامه وينطلق صوته معبرًا عن القناعة والانتظار، وقد نجح الممثل بإيصاله لنا بلا أي تصنع.

ورغم اتسام المسرحية بمغازلة المشاعر الاستشراقية، والعزم على كسب ودّ الجمهور الغربي بهذا الحس الصوفي الغامض الذي له أثر في العالم الأوروبي، فإن المسرحية استطاعت أيضًا تجسيد دور الفنان التشكيلي عمران، الذي يعمل في مرسمه ويناهض الاستبداد والعادات المهترئة، والذي يرفض أن ينضم عابد إلى معاهد الأسد لتحفيظ القرآن، التي كانت تخرّج المخبرين أو الإرهابيين الذين يفرخون من حضن المخابرات السورية، كما يقول الفنان عمران عبر تداعيات البطل الوحيد للمسرحية، الذي يتم تحطيم مرسمه ونهبه من قبل الأجهزة ومخبريها بالتعاون مع التحشيد الديني والشعبي ضد فنان ينتقد ما يدور حوله في الحي الدمشقي.

كان مشهد البطل وهو يرفع غطاء الضريح لينضم إلى صاحبه مؤثرًا، وقد وجهت المسرحية تحية للفنان عمران ولكل من يقاوم الظلم والاستبداد من خلال رفع عابد الضريح من جديد وضم إليه بقايا لوحات عمران التي مُزّقت لمحو أثره في هذا الظلام الدامس.

وبالرغم من الانتقادات التي توجه إلى المونو دراما باعتبارها مهربًا من الفعل ومن التأثير المتبادل بين ممثلين متعددين حسب بيتر بروك، فإنها كسبت جمهورًا كبيرًا في تقليدها لأسلوب الحكواتي، وكذلك في اعتمادها على تداعيات الجنون لتسريب انتقاداتها وأفكارها في زمن المخابرات المحكم الإغلاق، وقد تناقش الحضور مع نوار بلبل بعد المسرحية، وطلبوا منه تجسيد معاناة السوريين ونقل رسالتهم في طلب الحرية، وطلبوا أن يكون الفنان محورًا لتجميع جهود السوريين المشتتة نتيجة هذا الخراب، وقد شكا نوار بلبل من التشتت، ومن المعاناة التي يكابدها في بناء أعمال جماعية تقدم مأساة السوريين، ولكنه لم ييأس بعد.

في أيام احتفال ستراسبورغ بقدوم النويل ورأس السنة، حيث تزدان هذه العاصمة الأوروبية الفرنسية بالألوان وبالأضواء، جاءتنا هذه النسمة الدمشقية من حي الشيخ محيي الدين بن عربي في دمشق، ذلك الشيخ الذي قطع العالم من غربه إلى شرقه ليجد مقرًا له على سفح جبل قاسيون بعد أن كان في الأندلس، جاءت مسرحيته شرقية الطراز إلى فرنسا عبر لاجئين قطعوا البحار والقارات، وعبروا بها حواجز الدول لتجد جمهورها، ولتجد اللاجئين السوريين الذين جاؤوا من عدة مدن وبلدات فرنسية من أجل حضور المسرحية، وحضور الرقصة المولوية الهائلة التي اختتم بها نوار بلبل مسرحيته، والتي أخرجت كل ألقها وعنفوانها من أجل أن تشدّ الحضور من سوريين ومن عرب ومن فرنسيين، ولتخرج الزمن من ركوده ومن تشابهه، رقصة أداها نوار بلبل بكل فاعلية، وشدّ إليه الجمهور الذي وقف طويلًا وهو يصفق له ولفريقه خلف الكواليس.

تحية لنوار بلبل ولفريقه، وتحية لدمشق وأهل دمشق الذين يتضورون بردًا وجوعًا وسط الغلاء الذي يعصف بأهلنا، حيث لم يبقَ لهم إلا إطلالة الشيخ محيي الدين بن عربي النورانية على بؤسهم، وعلى بؤسنا الذي راكمه هذا النظام الاستبدادي.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي