مراد عبد الجليل | محمد حمص | ميس حمد
خلال العقود الأربعة الماضية ارتبطت زيادة الرواتب في سوريا بمخاوف من رفع الأسعار، وهو ما يتوقعه المواطنون، بناء على التجربة، وعلى مؤشرات ترتبط بالسياسات الاقتصادية للنظام السوري.
لكن الزيادة الأخيرة في الرواتب، التي أُقرت في 21 من تشرين الثاني الحالي، لم تحمل معها توقعات جديدة، إذ بدأت الأسعار بالارتفاع قبل أسبوع منها، إثر تدهور قيمة الليرة السورية منذ بداية الشهر الحالي، وصولًا إلى مستويات قياسية، تنذر برفع مستمر في الأسعار.
ورغم تعهدات وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، بعدم رفع الأسعار من قبل أصحاب الفعاليات التجارية، بعد زيادة الرواتب، لكن عنب بلدي رصدت ارتفاعًا بأسعار بعض السلع الأساسية، تجاوز 20٪.
بينما قال وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عاطف النداف، إنه سيتصدى بحزم لكل من تسول له نفسه رفع أسعار أي مادة أو سلعة غذائية أو استهلاكية، وإن المواد ستطرح بأسعارها “المنطقية”، ووفق المنطق، فإن استمرار انخفاض قمة الليرة سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار.
ارتفاع الأسعار، لن يكون النتيجة السلبية الوحيدة لتراجع قيمة الليرة السورية، إذ ستتبع انهيار العملة مجموعة من النتائج البعيدة، التي ستنعكس في آثار اقتصادية واجتماعية تمس المواطنين بشكل مباشر.
وتحاول عنب بلدي في هذا الملف، عبر محاورتها مجموعة من المحللين والباحثين الاقتصاديين، الوقوف على الأسباب المباشرة التي أدت بالليرة إلى الانخفاض الكبير خلال الأسابيع القليلة الماضية، وآثار زيادة الرواتب واستمرار انخفاض الليرة على المواطن والاقتصاد السوري.
“المركزي” والمستثمرون و”الثقة”..
أسباب مباشرة في تدهور قيمة الليرة
“كم سعر الصرف اليوم”، هو سؤال السوريين اليومي، وخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، وحديثهم المعتاد سواء في جلساتهم الخاصة أو في عملهم في الدوائر الحكومية، وسط تخوفهم من المستقبل المجهول في ظل عدم وجود تصور لحدود تدهور الليرة، ما ينذر بواقع معيشي صعب وتأزم الوضع الاقتصادي أكثر فأكثر.
أسباب كثيرة أدت لانخفاض قيمة الليرة، خلال الأيام الماضية، على الرغم من الحفاظ على مستوياتها العام الماضي عند حدود 500 ليرة، أولها نفاد خزينة حكومة النظام السوري من العملة الصعبة (الدولار)، وهو ما أجمع عليه محللون اقتصاديون التقتهم عنب بلدي.
جملة أسباب
يعتقد الباحث الاقتصادي مناف قومان، أن طول أمد الصراع عامل رئيسي لا يمكن التغاضي عنه في تراجع قيمة الليرة، لكن تطورات حدثت خلال الفترة الأخيرة، أدت إلى زيادة ضعف الليرة، منها عدم توفر الدولار في خزينة الدولة، الأمر الناجم عن انقطاع “الخط الائتماني الإيراني”، والمساعدات المادية من حلفاء النظام، وبالتالي حاجة النظام إلى العملة الصعبة لشراء وسد الحاجات الأساسية للمواطنين، من وقود وغذاء وأدوية وغيرها.
أدى ذلك، برأي قومان، إلى حالة من “الهلع” بعد الإيحاء بأن النظام غير قادر بعد اليوم على تنفيذ استحقاقاته، ما دفع السوق السوداء، التي تعتبر المحرك الرئيسي لسعر صرف الليرة، إلى رفع عتبة الأسعار في الأسواق.
فقدان ثقة المواطن بالعملة وتخوفه من استمرار انخفاضها، لعبا أيضًا دورًا كبيرًا في الانخفاض، عبر استبداله الدولار بالليرة السورية في السوق السوداء ولدى الصرافين، بحسب وزير الاقتصاد والمالية في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الكريم المصري.
وعن الأسباب الأخرى التي أدت إلى تراجع قيمة الليرة، أوضح المصري في حديث إلى عنب بلدي، أن منها فقدان المصرف المركزي الرصيد الاحتياطي للعملة الصعبة، وانخفاض الناتج المحلي وعجز الميزان التجاري، أي زيادة الواردات على الصادرات، إذ أصبحت سوريا تستورد مواد كانت سابقًا تصدرها، مثل النفط، إضافة إلى الديون المترتبة على عاتق النظام السوري لحلفائه وخاصة إيران، وفق المصري.
كما انعكس خروج رؤوس الأموال والمستثمرين من سوريا سلبًا على الناتج المحلي وازدادت البطالة بشكل كبير، ما أدى إلى خروج العملة الصعبة من سوريا.
ويرى المصري أن عودة المستثمرين “الآمنة”، والقيام باستثمارات تلبي حاجات البلاد، سيؤديان إلى زيادة الإنتاج المحلي وإدخال العملة الصعبة وتخفيف المستوردات، ما يؤدي إلى تحسن في الليرة.
وربط وزير الاقتصاد الأسبق في حكومة النظام السوري، نضال الشعار، بين عودة المستثمرين من خارج سوريا وتحسن الليرة السورية، وأكد مرارًا عبر صفحته في “فيس بوك”، أنه “لا البنك المركزي ولا الحكومة ولا أي جهة ستكون قادرة على تصحيح هذا المسار (انخفاض الليرة)، ولا حل إلا في عودة المستثمر بجميع قدراته الإنتاجية والإنسانية وأدواته المتعددة التي اشتهر بها على مر السنين، بشرط أن تكون العودة سليمة وآمنة دون خوف لمن رحل”.
من جهته اعتبر المحلل الاقتصادي يونس الكريم، أن للإشاعات دورًا كبيرًا في تراجع الليرة، إذ إن مجرد تداول الإشاعات التي تتحدث عن فقدان العملة قيمتها واستبدالها، يؤثر بشكل كبير ويخوف المواطنين ما يدفعهم لاستبدال الدولار بعملتهم ، معتبرًا أن ذلك عمل “غير أخلاقي” يتم التسويق له.
صمت حكومي تكسره زيادة الرواتب
رافق انخفاض قيمة الليرة صمت من قبل مسؤولي النظام السوري والمصرف المركزي، باستثناء بعض التصريحات التي نفى فيها المصرف تعديل سعر الصرف الرسمي، الذي يبلغ 438 ليرة للدولار الواحد، بفارق 312 ليرة عن السوق السوداء، ما يفتح باب المضاربة نتيجة الفارق الكبير بين السعرين.
ويعود صمت حكومة النظام إلى عجزها عن تقديم أي حلول واستنفادها جميع الأوراق، وأحدثها “مبادرة رجال الأعمال”، في أيلول الماضي، حين جمع المصرف المركزي رجال الأعمال السوريين لإنشاء صندوق لدعم الليرة.
لكن المبادرة لم تكن سوى “لعبة نفسية”، خاصة أن احتياجات الدولار أكبر بكثير من الأرقام التي تضمنتها، لا سيما في ظل فشل الصادرات السورية في الوجود بقوة في الأسواق التي فُتحت لها، مقابل ازدياد مطّرد في الواردات التي تحتاج إلى تمويل بالعملة الصعبة.
كما أن احتياجات سوريا من المشتقات النفطية باتت تتطلب الدفع النقدي وشبه الفوري نتيجة العقوبات على إيران، وإيقافها لخطها الائتماني، ما زاد من الضغط على سوق الصرف بشدة، بحسب ما قاله الباحث في العلاقات الاقتصادية الدولية عبد المنعم الحلبي، لعنب بلدي.
استمر الصمت بعد أن كسر سعر صرف الدولار حاجز 700 ليرة، ووصل إلى 740، إلى أن أصدر بشار الأسد مرسومًا يقضي برفع الرواتب، وزيادة الحد الأدنى لبعض الأجور، على الرغم من تصريحات سابقة متكررة لمسؤولي الحكومة بأنه لا زيادة رواتب دون الانتهاء من أولويات الإنتاج وعودة الاقتصاد إلى نمو حقيقي وزيادة موارد الحكومة.
ونص مرسوما رفع الرواتب 23 و24 لعام 2019، الصادران في 21 من تشرين الثاني الحالي، على إضافة مبلغ 20 ألف ليرة سورية (26 دولارًا أمريكيًا) إلى الرواتب والأجور الشهرية المقطوعة لكل من العاملين المدنيين والعسكريين، وإضافة 16 ألف ليرة سورية (21 دولارًا أمريكيًا) على رواتب المتقاعدين من العسكريين والمدنيين.
وحول كيفية تغطية حكومة النظام لقيمة الرواتب، أكد قومان أن حكومة النظام ستدفعها من الموازنة نفسها، كون الحكومة لديها ما يكفي من الليرات السورية ويزيد، خاصة أن الرواتب ليست بالدولار، أو بعملة أخرى، مشيرًا إلى أن حكومة النظام سبق أن أخّرت الزيادة مرارًا بعدما تمت مناقشتها سابقًا.
وكان النظام قد أجّل زيادة الرواتب، وفق قومان، لأن زيادة الكتلة النقدية في أيدي الموظفين ستؤدي، في ظل غياب الإنتاج والعملة الصعبة، إلى زيادة الأسعار في الأسواق، وبالتالي الدخول في مرحلة جديدة من التحدي قد لا يكون قادرًا على تحملها، في حال ارتفعت معدلات التضخم إلى نسب مرتفعة، وتهاوت قيمة الليرة أكثر.
ويرى قومان أن النظام ربما كان ينتظر فرجًا قريبًا بعد أن يسيطر على بقية الأراضي الخاضعة للمعارضة، من إعادة الشرعية الدولية والإقليمية له، ورفع العقوبات عنه، وتمرير أموال إعادة الإعمار، باعتبار أن هذه الأمور ستؤدي إلى تحريك العجلة الاقتصادية في البلد، لكن ذلك لم يتحقق وبغيابها فإن العجلة متوقفة والأزمات الاقتصادية ستتراكم.
فئة نقدية جديدة بانتظار السوريين..
ما خيارات المواطنين؟
رافق الانخفاض السريع لقيمة الليرة شلل وتخبط في الأسواق، وسط ترقب لما ستؤول إليه الأيام المقبلة، والآثار المستقبلية القريبة لزيادة الرواتب واستمرار انخفاض الليرة السورية.
الباحث الاقتصادي مناف قومان، توقع في حال تراجع الليرة أكثر لجوء حكومة النظام إلى التأقلم مع الوضع الجديد وطباعة أوراق نقدية جديدة من فئة أعلى، مثل خمسة آلاف وعشرة آلاف ليرة، وإلغاء الأوراق النقدية القليلة، كونه إجراء عاديًا تلجأ إليه الدول عند انخفاض قيمة عملتها بشكل كبير وارتفاع الأسعار بشكل كبير ما يؤدي إلى خلل وظيفي في الورقة النقدية.
“المشرع الاقتصادي سيتعامل مع الواقع وسيعترف بالأثر، وهو يعرف منذ البداية أن مآل الأمور إلى هذه الحال سيحصل، وهو عليه التأقلم والتنفيذ”، على حد تعبير قومان.
أما بالنسبة للمواطن فهو رهين “حكومة ديكتاتورية”، بحسب الباحث الاقتصادي، لا يسعه عمل شيء معها، و”قوت يومه وعرق جبينه تضررا بسبب سياسات تلك الحكومة، ومع الوضع الجديد، وفي حال لامس صرف الدولار ألف ليرة، إما أن يتأقلم مع الوضع الجديد وتسير الحياة، أو أن يرفض هذا الواقع ويطالب بالتغيير”.
تغير الأنماط الاستهلاكية
من جهته أكد المحلل الاقتصادي يونس الكريم، أن من الآثار السلبية لزيادة الرواتب هو استمرار انخفاض قيمة العملة، الذي سيؤدي إلى ضخ المزيد من الأوراق النقدية السورية، عن طريق القروض التي تمنح للناس من قبل المصارف الحكومية.
وبالتالي يتوفر لدى المواطنين العملة الوطنية دون أن تقابلها السلع، وخاصة إذا كانت القروض استهلاكية مخصصة للسلع الكمالية بحيث تكون مدتها أقل من عام، ما يعني زيادة الطلب على “الدولار الإحلالي”.
كما تحدث الكريم لعنب بلدي عن نتائج قد تكون “كارثية” مع استمرار انخفاض الليرة، وما يقابله من ارتفاع للأسعار في السوق السورية، في حال لم تراعَ وتعالج تلك المشاكل بالطريقة المثلى، سواء على الفرد والمجتمع والسوق المحلية والصناعة.
وقال المحلل الاقتصادي إن استمرار الانخفاض “له تأثير مدمر” بسبب انخفاض القوة الشرائية، وبالتالي سوف تبدو الصناعة المحلية ذات قيمة أكبر مما يستطيع الأفراد الحصول عليه، وهذا ما قد يؤدي إلى توقفها بسبب عدم وجود سوق تصريف لها، وبالتالي زيادة البطالة والغلاء وعدم تمكن الفرد من الحصول على السلع.
كما سيؤثر انخفاض العملة على السلع المستوردة التي ستظهر بأسعار مبالغ فيها، الأمر الذي يدفع المواطنين للاعتماد على السلع البديلة التي قد تكون ذات جودة رديئة، ما يزيد من التدهور في المقومات المجتمعية والذوق العام والأنماط الاستهلاكية وكل ما يتعلق بسلوك المستهلك، الذي يشكل جزءًا من ثقافة المجتمع، وعلى المدى البعيد سيجعل ذلك قيام أي صناعة متقدمة أو جيدة غير مجدية في سوق تنخفض فيه القوة الشرائية.
انتشار اقتصاد الظل
لا يوجد تعريف محدد لـ “اقتصاد الظل” أو “الاقتصاد الخفي”، ولكن يشمل بيع المنتجات في الخفاء بثمن أقل من سعر السوق، دون ضرائب، كما يشمل التهرب من دفع المساهمات الإجبارية للموظفين، وهذه الأمول من الضرائب تذهب للخدمات المحلية العامة. |
كما سيؤدي استمرار الانخفاض إلى المزيد من انتشار “اقتصاد الظل” والفساد، وبالتالي العمل من جانب المواطنين بأكثر من قطاع ما يؤثر على الخدمات المحلية، التي تشمل العملية التعليمية والصحية وغيرها، بحسب المحلل الاقتصادي يونس الكريم.
ويتابع، “عندما نقول إن الليرة أمن وطني، هو بسبب علاقتها الوطيدة مع جميع مكونات بناء المجتمع السليم”، لما لها من آثار على القطاعات العامة بسبب عدم قدرة الأفراد على شراء الدواء والغذاء، الأمر الذي يزيد حالات التسرب الدراسي للعمل، ويؤثر على بنية العملية التعليمية وتكوين المجتمع.
وذلك سيؤثر على كل المقومات التي تؤدي إلى استقرار المجتمع، بحسب الكريم، الذي أشار إلى “احتمالية ازدياد المزيج العسكري ومعه الاضطرابات، فتدخل البلاد بحالة من الفوضى الهدامة، وسط صراع للبقاء، مع بروز أمراء الحرب الذين سيفرطون بالبذخ”.
هل سيؤدي تدهور الليرة إلى كساد؟
يشير المحلل الاقتصادي السوري يونس الكريم إلى أن ما يحدث في السوق المحلية هو “ركود انكماشي” أي إن هناك زيادة نقدية وتوسعًا في السياسات النقدية مقابل انخفاض الطلب، بسبب ارتفاع مستوى الأسعار وزيادة المعروض في السوق من السلع، نتيجة التهريب و”اقتصاد الظل” وبالتالي يقود هذا “الركود الانكماشي” إلى عرض كبير في السلع دون وجود طلب أو تصريف.
ويضيف أن سوريا تدخل في هذه الحالة التي تقود إلى المزيد من الانهيار المجتمعي بسبب توافر السلع وعدم وجود القدرة الشرائية، رافضًا استخدام مصطلح الكساد حول ما يحصل في السوق المحلية، معللًا ذلك بأن سوريا دولة غير صناعية.
وفرّق الكريم بين مصطلحي الركود والكساد بالفارق الزمني، مشيرًا إلى أن الكساد يطول أكثر من دورة إنتاجية، بينما الركود يكون في دورة إنتاجية واحدة بين ثلاثة وتسعة أشهر، ولا يتجاوزها.
وخلال الركود تنخفض القوة الشرائية ويزداد العرض وينخفض الطلب، نتيجة انخفاض القوة الشرائية، ويزداد العرض أو يبقى متوفرًا ولكن دون إقبال، وخلال الكساد تتوقف الأعمال الصناعية، وهذا خارج سوريا، فهو مختص بالدول الصناعية، بينما يصيب الركود الدول التجارية.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن معالجة آثار الركود أسهل من الكساد، لأن الأخير يؤدي إلى شلل الناتج المحلي الإجمالي
هل يستطيع النظام السوري إخراج الليرة من أزمتها
سياسات عدة اتبعتها حكومة النظام السوري عبر المصرف المركزي، حاولت عبرها إبقاء الليرة عند سعر صرف “مقبول” كان أحدثها مبادرة “عملتي قوتي” التي أطلقها المصرف بدعم من رجال الأعمال السوريين، نهاية أيلول الماضي، والتي لم تجدِ نفعًا، كما أكد عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، حسان عزقول، في 12 من تشرين الثاني الحالي، تعليقها بشكل مؤقت كون المصرف المركزي يعمل على تعليمات تنفيذية جديدة لمنح التمويل عبر صندوق المبادرة.
لكن المستشار المالي والباحث في العلاقات الاقتصادية الدولية عبد المنعم الحلبي، اعتبر في حديث إلى عنب بلدي أن المصرف المركزي غير قادر على تأمين الاستقرار في سعر صرف الليرة عند مستويات 600 و700 ليرة سورية، كونه ما زال “ملتزمًا بتوجيهات حكومة النظام القاضية بعدم التدخل في سوق الصرف، بداعي الانخفاض الشديد في احتياطات الدولار التي تحويها الخزينة“.
سياستان سابقتان
اتبع المصرف المركزي في السابق سياستين، وفق الحلبي، إحداهما جلسات التدخل التي جرى تطبيقها في عهد حاكم مصرف سوريا الأسبق، أديب ميالة (2005- 2016)، للتحكم في سعر صرف الليرة.
واعتبر أنها “استُخدمت إما لمصلحة رجال أعمال مقربين من النظام السوري، دعموا خلال الحرب السورية فصائل مقاتلة تابعة للنظام، أو لعقد صفقات للتحايل على العقوبات المفروضة على سوريا، عبر بيع ملايين الدولارات في تلك الجلسات بالتعاون مع شركات الصرافة” بحسب الحلبي.
وعلى الرغم من الاعتراض الكبير على سياسة ميالة حينها، إلا أن المصرف أكد استمراره في جلسات التدخل وضخ الدولار في السوق، وبحسب بيان صادر عنه في حزيران 2016، ذكر أنه “مستمر بتطبيق مختلف أدوات السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية، والتي من أهمها التدخل المباشر في السوق وإدارة السيولة لضبط الطلب على القطع الأجنبي، وتحقيق استقرار نسبي بسعر الصرف”.
وأكد ميالة حينها، عبر جريدة “البعث” الحكومية، أن “المركزي بات اللاعب الأساسي في تحديد حجم العرض والطلب على القطع الأجنبي في السوق، وذلك من خلال إجراءاته الأخيرة في ضبط السيولة وزيادة المعروض من القطع في السوق”.
لكن الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق شفيق عربش، اتهم في مقابلة مع موقع “المشهد” المحلي، في 20 من تشرين الثاني الحالي، أديب ميالة باستنزاف احتياطي سوريا من القطع الأجنبي عبر لجوئه إلى سياسة المزادات (جلسات التدخل) بين عامي 2011 و2016.
وقال عربش إن “ميالة لجأ إلى أساليب اتبعت في دول أخرى وأثبتت فشلها، وهي المزادات، التي أدت إلى استنزاف احتياطي سوريا من القطع الأجنبي، وعلى فرض حسن النية، عندما ثبت أن المزادات لم تحقق الغاية المرجوة منها، لماذا استمررنا بها، وكيف يستمر على رأس عمله من فشل في إدارة المزادات من عام 2011 حتى 2016”.
أما السياسة الأخرى، وفق الحلبي، فكانت التدخل عبر المصارف التي تم اتباعها في عهد حاكم المصرف المركزي السابق، دريد درغام، والتي تسمح بتأمين الدولار وفق السعر النظامي لأطراف تدعم النظام السوري“، وهي لم تستخدم أيضًا في الوقت الحالي.
ورفض درغام سياسة التدخل المباشر في السوق واعتبرها “خاطئة”، وقال بحسب موقع “الاقتصاد اليوم” المحلي في أيار 2017 إن ” التدخل في سوق القطع الأجنبي سياسة خاطئة وغير مبررة تسهم في استنزاف الاحتياطي، لذا اتخذ البنك المركزي قرارًا بإيقافه”، مشيرًا إلى وجود أدوات نقدية كثيرة لمعالجة تراجع سعر الصرف دون اللجوء إلى ضخ القطع الأجنبي في السوق.
“ترك السوق”
فيما يتعلق بالسياسة الحالية المتبعة من قبل النظام السوري، أوضح الحلبي أن “حكومة النظام والمصرف المركزي عملا على ترك السوق يحدد سعرًا متوازنًا دون تدخل، وربما يتم اللجوء إلى تعويم الليرة واللعب على العامل النفسي بحملات مشابهة لمبادرة عملتي قوتي، التي طرحها المصرف بمشاركة عدد من رجال الأعمال السوريين في أواخر أيلول الماضي“.
ويقصد بالتعويم، تخلي البنك المركزي عن تحديد سعر العملة، وترك سعر صرفها يُحدد وفقًا لقوى العرض والطلب في السوق النقدية، أي ربط قيمة العملة بحجم الطلب عليها.
ويرى الحلبي أن مساعي النظام والمصرف المركزي في الوقت الراهن تتمحور حول “البحث عن مستوى مستقر وإن كان منخفضًا لليرة السورية، بشكل يمنح الليرة تنافسية سعرية للصادرات السورية، وتمويل موارد منها لتمويل المستوردات، بغرض خلق توازن في السوق دون التدخل واستنزاف ما تبقى من احتياطات الدولار شبه الناضبة” حسب وصفه.
لكن احتمالية طرح حكومة النظام مشاريع أو مبادرات أو الإعلان عن خطة اقتصادية، بدت مستبعدة في نظر الحلبي الذي اعتبر أن النظام “غير مكترث لرأي الشارع، فهو يعتقد أن هذا الشارع تمت السيطرة عليه بشكل كامل، وهو ليس مضطرًا لتبيان حقيقة الوضع، أو ما يمكن عمله” حسب قوله.
التحسن رهن الحل
وحول مآلات سعر صرف الليرة السورية، بعد احتمالية التوصل إلى حل سياسي، اعتقد الحلبي أن “مشكلة سوريا سياسية وحلها بطريقة تفضي إلى استقرار مقبول سينعكس حتمًا بشكل إيجابي على واقع الاقتصاد السوري ككل، ولا سيما فيما يتعلق بواقع الاستثمار ومكافحة البطالة”.
كما سيؤدي الحل السياسي إلى “استعادة تنافسية الصادرات، والتخفيض من الواردات الاستهلاكية، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى توازن واستقرار العملة والتفرغ لمواجهة التضخم والانحدار في مستويات الدخل الحقيقي للمواطن السوري“.
وأوضح الحلبي أن المدى الزمني لتعافي الليرة لا يزال مبهمًا، ويحتاج إلى برامج مدعومة دوليًا، لديها القدرة على استقطاب استثمارات وموارد بشرية ومالية هائلة وتطوير البنى التحتية والبيئة القانونية، أما على المستوى القريب، “فتتجه الأمور إلى مستوى جديد لصرف الدولار أمام الليرة يتراوح بين 800 و850”.