سيرين عبد النور- ديرالزور
«نحن نموت أمام أنظار الجميع، دون أن يتحرك أحد.. نموت جوعًا، نموت صبرًا، ونموت خوفًا على أولادنا وعلى مصيرنا»، تقول أم عمر وقد غلبتها دموعها، «هنا لا يتوقف القلب عن الخوف، من الأمن والشبيحة، ومن الجوع والمرض، من ارتفاع تكاليف العلاج، ومن القصف الذي يستهدفنا في أغلب الأحيان، وحتى من سقوطنا بين أنياب الدواعش».
في غرفة في حي القصور لا تتجاوز مساحتها الأربعة أمتار تقيم عائلة أم عمر بكاملها، ضاقت بهم المساحة حتى عن أن ينعموا بالقليل من الهدوء.
حي القصور يقع ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، حيث لا كهرباء منذ أكثر من شهرين، وحيث يسود نقص شديد في المواد الغذائية والتموينية، وبالتالي غلاء في أسعارها، إثر الحصار المفروض على تلك الأحياء منذ ثلاثة أشهر من قبل تنظيم الدولة الإسلامية.
وتتقلب الأسعار هناك تقلبات كبيرة وفجائية، و «دون سبب حقيقي» حسبما يقول رامز، من حي هرابش، «الأسعار تتغير حسب الأخبار عن اشتداد الحصار والمعارك»، ويوضح رامز «قبل إعلان تنظيم الدولة معركته ضد النظام، كانت علبة المرتديلا بـ 500 ل.س؛ بينما حلق السعر ليصل إلى ثلاثة أضعاف عقب الإعلان، إذ باتت تباع بـ 1500 ل.س إن وجدت».
استمرار الحصار وشح المواد الغذائية والطبية، بالإضافة إلى انقطاع المياه الصالحة للشرب، تسبب بالعديد من المشاكل الصحية لدى الأطفال دون سن الـ 12، والذين يشكلون أكثر من 35% من سكان الأحياء المحاصرة. أما بالنسبة للشيوخ والمسنين، فقد تسبب ذلك بارتفاع معدل الوفيات.
الاعتقالات تطال 4 من بين كل 10 شبان
الرعب كذلك يكاد لا يستثني منهم أحدًا، فالملاحقات الأمنية لا تتوقف، والكل مطلوب، إما للالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، أو للاحتياط ومليشيات الدفاع الوطني، أو لأحد الأفرع الأمنية، حسبما يصف أهالي حي الجورة، حيث تطال الاعتقالات 4 من بين كل 10 شبان ممن هم فوق الثامنة عشرة، حسب إحصائية أجرتها عنب بلدي في حي القصور. أما الإفراج عنهم فيتفاوت تبعًا للتهمة، وفي نهاية المطاف، يقتادون قسرًا إلى إحدى الجبهات فور الإفراج عنهم.
و«الموت أرحم من هذا الانتظار» بالنسبة لريم، التي تعيش حالة من الترقب المستمر خوفًا على زوجها وأولادها، «قلبي يخفق بشدة كل مرة يرن الهاتف، أو يدق باب منزلنا».
ريم فقدت أخاها ذا الـ 19 ربيعًا، بعد أن أوقفه أحد حواجز النظام ومزق أوراق تأجيل خدمته العسكرية، ثم قاموا بسوقه للالتحاق بالخدمة الإلزامية. ولم تنفع محاولات العائلة لتهريبه أو تأجيل التحاقه بالجيش، وأسبوعًا واحدًا فقط بعد سوقه عاد إليهم اسمًا على ورقة بريد كُتب عليها «شهيد».
الأهالي بين قطبي رحى
يتهدج صوت أم عمر مخنوقًا بغصتها وهي تتحدث عن صعوبة هذه الأيام التي «قل فيها كل شيء، وبات الإنسان هو الأرخص قيمة». ومع ذلك يبقى أهالي حي القصور وغيرها من الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام أمام «أمرين أحلاهما مرّ»، ذلك أن مغادرتهم لأحيائهم تعني انقطاع موردهم المادي الوحيد، فـ 90% منهم موظفون حكوميون، يعتمدون على رواتبهم الشهرية بشكل أساسي لتغطية نفقاتهم.
«الكل يسحق الشعب دون رحمة، والدنيا كلها صفت ضدنا، ومالنا حدا غير الله»، تعقب أم عمر.
تشديد الإجراءات من قبل طرفي الصراع في المنطقة، قوات الأسد وتنظيم الدولة، كان هو الملفت في الآونة الأخيرة، إذ أصدر كلا الطرفين قرارات تمنع الأهالي من الانتقال بين شطري المدينة الخاضعين لسيطرة مختلفة، وذلك بغية الحفاظ على «الحاضنة الشعبية»، ومنع حصول اختراقات محتملة، وهكذا ألقيت المزيد من الضغوط على المدنيين في كلا الشطرين. تنظيم الدولة من جهته أصدر سلسلة فتاوى تكفر بموجبها كل من تثبت زيارته لمناطق النظام ويطبق بحقه حكم «المرتد»؛ أما النظام فقد أصدر قرارات تقضي بمنع خروج الأهالي من مناطقه إلا بإذن رسمي ممهور بختم المحافظ.
40 ألف ليرة لغض الطرف
وقد طالب اللواء محمد خضور قائد عمليات النظام في ديرالزور أهالي المدينة بتقديم 1500 شاب للمشاركة في الدفاع عن المدينة وفك الحصار عنها، ونفّذ حملة أمنية واسعة شملت تفتيش بيوت المدينة، اعتقل خلالها العشرات من الشبان، إضافة إلى اعتقال معظم خطباء وأئمة المساجد.
الحملة الأمنية الأخيرة كذلك شكلت عبئًا إضافيًا، وأسلوبًا جديدًا لابتزاز الأهالي، فأبو محمد من حي الجورة يوضح لعنب بلدي أن الأهالي يجبرون على دفع «غرامات» و «أتاوات» لتجنيب أبنائهم شر الاعتقال «قد يصل سعر الدورية الى 40 ألف ل.س ثمنًا لغضهم الطرف عن أبنائنا». آخرون حاولوا تهريب أبنائهم عبر دفع رشاوى لحواجز النظام ومبالغ أخرى للمهربين، وبالمجمل تبلغ تكلفة تهريب الشخص الواحد إلى خارج مناطق سيطرة النظام 50 ألف ليرة سورية، وإلى تركيا 125 ألف ليرة سورية.
مبالغ كهذه، خاصة إن قورنت بالقطع الأجنبي، قد لا تبدو كبيرة، ولكنها بالنسبة للمواطنين المحاصرين لا تتأمن بسهولة، ولا يأمن حاملها من غدر المهربين والحواجز على حد سواء؛ وبين تجبّر الطرفين، قوات الأسد وعناصر التنظيم، ومغالاتهما في البطش بأهالي أحياء الجورة والقصور، تستمر حياتهم خوفًا متواصلًا وترقبًا من نزوح يحوم حول أبوابهم، وقد يطرقها عند أي لحظة.