وليد الآغا – دمشق
مضى عامان ونصف على تحرير بلداتٍ وأحياء في جنوب العاصمة دمشق من قبضة قوات الأسد، وسيطرة فصائل عسكرية ثورية وتنظيمات «إسلامية» عليها؛ ومع غياب «حكومة» النظام في المناطق المحررة وما أحدثه فراغ مؤسساتها الإدارية، وخاصة القضائية منها، كان لا بد من بديل يقضي بين الناس في منازعاتهم وخصوماتهم ويقيم القانون بينهم. وعليه، أُسست الهيئات الشرعية لتلبي حاجة ضرورية في حياة الناس، ولكنها اصطدمت فيما بعد بحواجز وعوائق أسهمت سلبًا على سير العمل القضائي وغياب العدل في كثيرٍ من الأحيان والحالات.
أُسست الهيئة الشرعية في جنوب دمشق فور تحرير المنطقة من قبضة نظام الأسد، وضمت عددًا من مشايخ البلدات والأحياء، وكان مركزها آنذاك في بلدة يلدا، كونها منطقة وسطى بين أحياء وبلدات الجنوب الدمشقي.
يقول مدير المكتب القضائي في جنوب دمشق المحامي عرفان الموصلي إن «الهيئة الشرعية حينها لم تكن تمارس الدور القضائي بالمعنى الحقيقي للقضاء بل كان عملها مجرد عمل إصلاحي»، فلم تكن تضم كوادر وخبرات قضائية من محامين وقضاة وإنما ضمت كوادر شرعية من مشايخ وطلبة علم، بحسب قوله، لذلك لم يكتب لها النجاح بسبب قلة خبرة كادرها.
وأسهمت حوادث كثيرة جرت في المنطقة في تفككها لاحقًا، لعل أبرزها وجود ونفوذ لواء الحجر الأسود، وهو أحد فصائل الجيش الحر الذي اشتهر بممارساته «التشبيحية»، وكان يترأسه بيان مزعل (أبو عمر بيان) سيئ الصيت، الذي اصطدم مع الهيئة أكثر من مرة، بل واعتدى على كادرها في مقر الهيئة خلال أحد الصدامات.
التجربة الثانية للعمل القضائي في المنطقة كانت مشابهة إلى حد كبير للتجربة الأولى من حيث الكادر الذي ضمته الهيئة الشرعية والدور الذي اضطلعت به، وانتهى عملها مع سيطرة قوات النظام والميليشيات الشيعية الإيرانية واللبنانية والعراقية على ست بلدات جنوب دمشق في تشرين الثاني من 2013.
الهيئة الشرعية و«البيعة»
التجربة القضائية الثالثة كانت بتأسيس الهيئة الشرعية الحالية بتاريخ 1 أيار 2014، ويقول عرفان الموصلي إن هذه التجربة كانت مختلفة عن سابقاتها بأنها سعت لممارسة الدور القضائي كما ينبغي وليس مجرد العمل على «حلّ المشاكل»، إذ دربت عددًا من الحقوقيين المتواجدين في المنطقة للقيام بمهام القضاء والتحقيق.
وضمت الهيئة التشكيلات العسكرية الكبيرة باستثناء تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وجبهة النصرة؛ فتنظيم الدولة كان قد أسس «دار رد المظالم» في بلدة يلدا، إذ كان في أوج قوته في المنطقة حينها، إلا أنه انسحب فيما بعد باتجاه حي الحجر الأسود بعد قتاله لفصائل ثورية واعتدائه على قيادات جيش الإسلام والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام في آب 2014.
أما النصرة فتذرعت بحجج كثيرة لعدم الانضمام للهيئة، وبحسب الشيخ أبو مالك رئيس الهيئة سابقًا، هي حجج لا تعذر فيها.
التزام الفصائل العسكرية بقرارات الهيئة في بداية العمل كان جيدًا نوعًا ما، حسب ما أوضح الشيخ أبو مالك، إلا أن التملص من الالتزام بدأ تحت حجج شتى، على رأسها عدم سريان قرارات الهيئة على فصائل مثل جبهة النصرة، التي رفضت التقاضي للهيئة، وبحجة أن الهيئة مجيرة لفصيل دون آخر؛ أما المدنيون فنسبة التزامهم جيدة.
ويضيف أبو مالك أن «النصرة» كانت أهم عائق يقف بوجه عمل القضاء في الهيئة الشرعية، ولكنها لم تكن العائق الوحيد، وتبيّن فيما بعد أنه يوجد من ضمن الفصائل المبايعة للهيئة من لا يريد لعملها النجاح والاستمرار.
«السَّرية» القضائية والنفوذ العسكري
يحتاج العمل القضائي إلى قوة تنفيذية يكون لها القدرة على إلزام الأطراف المتخاصمة بقبول تنفيذ قرارات القضاء، وهذا ما وجد فيه المكتب القضائي للهيئة الشرعية صعوبة بسبب قلة الإمكانيات، فبدلًا من تشكيل جهاز شرطة قضائية اكتفت الهيئة بتشكيل سريّة عسكرية صغيرة.
وبالرغم من هذه الصعوبات إلا أن عمل القضاء لم يقتصر على المدنيين دون العسكريين كما يقول البعض، بحسب عرفان الموصلي، وخير دليل على ذلك ما نشره المكتب القضائي في تقريره الصادر منذ نحو شهرين، إذ «وصل عدد الدعاوى المرفوعة للهيئة خلال ستة أشهر من عملها إلى 728 دعوى 333 منها دعاوى تخص العسكريين و197 دعوى منها منتهية».
ويضيف الموصلي «لم تكن هناك حصانة لأحد، وكل شكوى تقدم على أي فرد مهما كان نفوذه يتم استدعاؤه والتحقيق معه وفي حال كان هنالك تمنّع أو مماطلة من أي طرف يتم سلك كل السبل لثنيه، وإلا فيتم رفع ملفه للعسكريين لقتاله حتى يلتزم، وهذا ما صدر ضد تنظيم داعش».
لكنّ الصحفي الميداني في جنوب دمشق مطر إسماعيل يردّ بأن موقف الهيئة الشرعية كان «ضعيفًا» من دعوى رفعها قبل نحو شهرين ضد رئيس مجلس شورى التضامن سابقًا (أبو العز) وهو شرعي أيضًا لجبهة أنصار الإسلام.
والشكوى إثر بيان أصدره مجلس شورى التضامن يتهم فيه مطر إسماعيل بتسريب معلومات عسكرية وأمنية ما أدى لوقوع خسائر بشرية ومادية، علمًا أن هذه «المعلومات العسكرية والأمنية» هي ما ذكره الناشط في مداخلة تلفزيونية عبر قناة «العربية الحدث» حول الأحداث بين جبهة النصرة ولواء ش ام الرسول، وتسلل النصرة من بساتين زليخة حتى منطقة البوقية في ببيلا.
ويضيف مطر أنه أراد أن يتحاكم في دعوته إلى الهيئة وإن كان فعلًا المتسبب بما ذكره البيان ضده، فليحاسب وإن كان لا فيريد حقه لا أكثر.
وبالفعل استدعت الهيئة أبو العز أكثر من مرة لكن الأخير لم يستجب، وهذا ما فسره مطر بأنه عدم اعتراف بالهيئة أساسًا من قبل معظم الفصائل العسكرية في التضامن وأن لها محاكم خاصة وأن أبو العز نفسه قتل أكثر من شخص تنفيذًا لأحكام أصدرها بنفسه.
في النهاية طويت الدعوة وتبين أن أبو العز بايع تنظيم «الدولة» ويقاتل في صفوفه حاليًا، وفق ما ينقله مطر، معتبرًا أن الهيئة رغم ضعف موقفها وقرارها إلا أنها «عملت بواجبها»، محمّلًا المسؤولية «للفصائل التي بايعت الهيئة لكنها لم تقدم شيئًا فعليًا لتقوية شوكتها».
من «الهيئة» إلى «دار القضاء».. إلى أين؟
بعد هجوم تنظيم «الدولة» على كتائب أكناف بيت المقدس في مخيم اليرموك بتسهيلٍ من جبهة النصرة قبل أكثر من شهر، وسيطرة التنظيم فيما بعد على معظم أجزاء المخيم، فُرض على جنوب دمشق أن ينقسم إلى قسمين بفعل القتال الدائر بين تنظيمي «الدولة» والنصرة من جهة، وغرفة عمليات «نصرة أهل المخيم» –تتشكل من جيش الإسلام ولواء شام الرسول وجيش الأبابيل- من جهة أخرى.
بات هناك الآن قسمٌ شرقي يضم بلدات ببّيلا ويلدا وبيت سحم وتتواجد فيه فصائل غرفة عمليات «نصرة أهل المخيم»؛ وقسمٌ غربي يضم باقي مناطق جنوب دمشق ويتواجد فيه تنظيما «الدولة» والنصرة، باستثناء حيي القدم والعسالي. ومع القرار الذي أصدرته الهيئة والقاضي بقتال تنظيم «الدولة» وكل من يواليه في المنطقة، اقتصر تواجدها حاليًا على بلدات ببّيلا ويلدا وبيت سحم بطبيعة الحال.
وعن مشروع القضاء الموحد الذي يضم منطقة جنوب دمشق بالكامل من حي القدم وحتى بلدة بيت سحم يقول المحامي عرفان الموصلي إنه تم إيقاف المشروع حتى تحرير مخيم اليرموك من سيطرة تنظيمي «الدولة» والنصرة عليه.
وكانت الهيئة الشرعية أصدرت يوم السبت الماضي قرارًا يقضي بتسيير الأعمال في الهيئة والقضاء بشكل مؤقت على نحو جديد بعد تعثّر اتفاق مجلس الشورى بتعيين رئيس جديد للهيئة ومدير للمكتب القضائي بعد استقالة رئيس الهيئة الشيخ أبو مالك، ليتم تعيين الشيخ عمر أبو النور رئيساً للهيئة حاليًا، التي تم استبدال تسميتها بـ «دار القضاء في جنوب دمشق» بدل الهيئة الشرعية، وفق ما جاء في نص القرار، الذي دعا كافة الفصائل العسكرية والفعاليات المدينة إلى «تجديد البيعة».
جنوب دمشق
بلدات تتبع إداريًا لريف دمشق وأحياء إلى العاصمة دمشق، وتضم عقربا، بيت سحم، يلدا، ببيلا، حجيرة، السيدة زينب، الذيابية، الحسينية، السبينة، البويضة، غزال، التضامن، مخيم اليرموك، الحجر الأسود، القدم والعسالي.
تحررت هذه المناطق من قبضة الأسد باستثناء السيدة زينب نهاية عام 2012.
استعاد النظام بلدة عقربا بداية عام 2013، وسيطر أيضًا على بلدات حجيرة والذيابية والحسينية والسبينة والبويضة وغزال نهاية عام 2013.
بداية 2014 عقدت بلدات ببّيلا ويلدا وبيت سحم هدنة مع النظام، كما شهد حيا القدم والعسالي هدنة مماثلة منتصف العام.
تأتي الهدن بعد حصارٍ مطبق راح ضحيته اكثر من 200 شهيد جراء الجوع، من بين قرابة 100 ألف نسمة.
أبرز الفصائل في المنطقة جيش الإسلام، لواء شام الرسول، جيش أبابيل حوران، وحركة أحرار الشام وتتمركز في بلدات ببيلا ويلدا وبيت سحم.
بينما يسيطر تنظيما داعش والنصرة على الحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن إضافة لفصائل أخرى.
ويسيطر الإتحاد الإسلامي لأجناد الشام على الجزء المحرر من حي القدم.