إبراهيم العلوش
في الوقت الذي تبحث فيه عشرات ألوف العائلات السورية عن جثث أبنائها الذين كانوا معتقلين لدى مخابرات النظام وأُبلغت عبر مديريات الأحوال المدنية بوفاتهم، أو الذين خُطفوا على حواجز النظام وحزب الله والميليشيات الإيرانية ولم يعد أحد يعرف أخبارهم، بالإضافة إلى العائلات التي ذهب أبناؤها إلى جيش النظام واختفوا ولم يعد أحد يسأل عنهم، يصر رأس النظام في مقابلته مع القناة الروسية “RT” في 10 من تشرين الثاني الحالي، على مطالبة الأمريكيين بعرض جثتي ابن لادن و”البغدادي” ليصدّقهم بأنهما قد ماتا فعلًا.
لم يكلف النظام نفسه يومًا باعتبار جثث المعتقلين لديه أمرًا يخص أهاليهم، وخاصة الأمهات اللواتي لا يمكن أن يصدّقن موت أبنائهن ما لم يرين جثثهم، ولم يكن النظام يعبأ حتى بجثث مواليه الذين تساقطوا في الجبهات التي فُتحت ضد السوريين في كل المناطق، وتُركوا في العراء أو في المجهول دون أن يكلف أجهزته بإخلاء جثثهم رحمة بأهاليهم، ولعل غضب أهالي الجنود والشبيحة المختفين في الغوطة وتظاهراتهم بعد استيلاء النظام على المنطقة بعدما تبين كذب ادعاءاته بأنهم كانوا أسرى فيها، يشكل أحد الأدلة على هذا الاستهتار، وكان عدد أولئك المختفين أكثر من خمسة آلاف، لهم أمهاتهم، ولهم زوجاتهم وأبناؤهم، ولهم كثير ممن لا يزالون ينتظرونهم حتى اليوم، بينما هو ينتظر رؤية جثتي ابن لادن و”البغدادي”.
الأسد يعتبر السوريين مجرد كومبارس في نظامه سواء كانوا مؤيدين أو صامتين أو معتقلين أو حتى مؤيدين من مرتبة شبيحة. وما يغيظه حتى اليوم هو تجرؤ معظم السوريين عام 2011 على المطالبة بالحرية وإنهاء دور ثقافة المواطن المنافق أو المواطن الخائف التي ورثها عن حكم أبيه، فالمتظاهرون هم مجرد خونة يأخذون مبالغ من المال، كما يقول بكل جدية في مقابلته مع القناة الروسية.
لا يعترف الأسد بكل الأسباب التي يسوقها المحللون، ولا بآراء الشعب السوري، فينفي في المقابلة أثر خصخصة الدولة، وتدمير كيانها لمصلحة مجموعة من حاشيته الذين كانوا يجربون سياستهم الاقتصادية التي دمرت الطبقة الفقيرة، بالإضافة الى أجهزة القمع التي جعلت حتى الخصخصة محصورة بآل الأسد ومخلوف الذين نهبوا اقتصاد البلاد ولم يرحموا أحدًا رغم الجفاف الشديد الذي استمر أربع سنوات قبل الثورة، وتسبب بهجرة أبناء الجزيرة السورية إلى المدن الكبرى ليعملوا في الأشغال الثانوية كالتنظيف والتحميل تاركين حقولهم ومزارعهم التي أكلها الجفاف والضرائب وفوائد المصارف الفاحشة.
وكان الأسد أجرى مقابلة قبلها مع وسائل الإعلام السورية، في 31 من تشرين الأول الماضي، وكان المذيع والمذيعة اللذان يجريان المقابلة في حالة هلع ومجاملة إلى حد النفاق العلني لكل ما يقوله ولكل ضحكاته، التي يطلقها خلال المقابلة بغير احترام لذوي القتلى والجرحى والمهجرين، ولعل هذه المقابلة مجرد عملية تدريبية للمقابلة مع القناة الروسية التي ابتدأت الحديث معه بقسوة وبأن بوتين يورط الروس ويقتل أبناءهم من أجل حماية ديكتاتور شرق أوسطي.
السوريون بالنسبة للأسد في المقابلتين مجرد موضوع للتنظير والتحليل الفراغي، وهم دريئة له ولنظامه الذي استدعى الروس والإيرانيين ليستمر في الحكم، فتدمير مدينة حلب وغيرها من المدن يبرره ببساطة بأن نظامه يحارب الإرهاب، وينفي تهمة التعذيب في فروع المخابرات التي غيبت عشرات ألوف السوريين، وينكر أثر البراميل المتفجرة التي تقتل الأبرياء، وهو يبرر أيضًا ضرب المستشفيات بلا أي خجل بحجة أنها مواقع للإرهابيين، فكل سوري لا يؤيده ولا يقاتل في جيشه هو إرهابي حتمًا، ولا حاجة لنظامه به، فالمهجرون في تركيا معظمهم ارهابيون، وترتكب أوروبا جريمة بحق نفسها عندما تؤويهم وعليها إرجاعهم الى أجهزة المخابرات لإعادة تقويمهم.
ولم يسلم غير السوريين من التصغير والتهميش، فدول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وكل الاتحاد الأوروبي بنظره هي مجرد أحجار شطرنج بيد الأمريكيين ولا إرادة لها، ناهيك عن تحليلاته التي تتهم الأتراك وتكيل فاحش الكلام للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ولا يهمه في المقابلتين إلا تعظيم إيران وروسيا والصين، الدول التي ساندته في الحفاظ على الحكم، وأمدته بالقوة التي دمرت ثلاثة أرباع سوريا، عبر تكتيكات يظن بشار الأسد أنه يفهمها ويوجهها أيضًا، ناسيًا ما لحقه من الشعب السوري من فقدان للشرعية، وما لحقه من معاملة مهينة من قبل الروس في الساحة العامة، ومن قبل الإيرانيين الذين يرفضون أن يرفعوا علم سوريا في أثناء زيارته إلى طهران، باعتباره مختارًا لولاية من ولايات الولي الفقيه.
أما عن اللجنة الدستورية، فهو في المقابلة لا يعترف بوفد النظام، ولا يلتزم بكل ما سيتوصل إليه مستقبلًا، وبنظره فإن المفاوضات على الدستور هي مجرد سجال مع الأطراف الأخرى، وهو عازم على الترشح حتمًا في عام 2021، وقال كنا ثلاثة مرشحين في الانتخابات الرئاسية السابقة وسيكون عددنا أكثر في الانتخابات المقبلة، وبدا واضحًا أنه هو من يحدد المرشحين، كما يحدد نسبة النجاح في الانتخابات، كما كان يفعل دائمًا، وكما كان يفعل أبوه طوال الخمسين سنة الماضية.
اليوم وبعد ثماني سنوات من حرب النظام على الشعب السوري، ماذا جنى المؤيدون من هذا النظام، وماذا سيكسبون بعد انتهاء الحرب ضد السوريين، فالبلاد في حالة دمار واحتلال من قبل عدة دول، ومئات الآلاف من العائلات السورية مشغولة بفقدان أولادها المعتقلين والمخطوفين ومن كل الأطراف، ناهيك عن التهجير الذي أضاع خيرة خبرات سوريا وزينة شبابها الذين يرفضون التورط بحرب الأسد ومن كل الفئات السورية، وفوق ذلك فإن الأسد يسد كل منافذ التغيير والإصلاح باستمراره قابضًا على منصب رئيس الدولة، ورغم كل تضحيات السوريين وشجاعة ثورتهم، فهو يرفض أن يعطي شيئًا من وقته حتى للبحث عن جثث المفقودين السوريين، وهو مشغول عن السوريين ومأساتهم، كما قال في المقابلة، بالبحث عن جثتي نظيريه في الإرهاب أسامة بن لادن و”أبو بكر البغدادي”!