ضياء عودة | مراد عبد الجليل | أحمد جمال
لم يكن “الجيش السوري” مهيأً عندما بدأت الثورة السورية.. زجه الأسد بصورة مفاجئة لمواجهة المتظاهرين المناهضين له والاحتجاجات التي شهدت
ها أغلبية المدن والبلدات السورية، في حرب بدأها النظام السوري ضد خصم لم تذكره الكتب العسكرية ودورات الأغرار والصاعقة التي كان يخضع لها الأفراد في بداية التحاقهم، بل ظهر من وحي المرحلة التي اعتبرها الأسد التهديد الأكبر والأساسي لحكم عائلته الممتد لأكثر من 40 عامًا.
لم يشهد الجيش بداية الثورة تغيرات ملحوظة، على الرغم من حركة الانشقاقات التي أصابته، لكن اعتماد النظام على شخصيات موثوقة لصناعة القرار العسكري، أسهم في تقليص احتماليات التصدع، بينما أثرت التطورات العسكرية اللاحقة في شكل المؤسسة العسكرية التابعة للنظام السوري.
اعتمدت القوة العسكرية المفرطة للنظام تجاه المناطق الثائرة على ميليشيات إيرانية تدعم الجيش السوري على الأرض، وسلاح الجو الروسي، الذي بدأ تدخله في سوريا منذ عام 2015.
على المستوى البنيوي، شهد الجيش إضافة فيالق، ونقل ولاءات لأخرى واستعان بقوى “رديفة”، وتوزعت روسيا وإيران ذلك العمل، مع اختلاف أهدافهما، وطريقة تنفيذها، بينما بقي الارتباط الوثيق برأس النظام فعالًا.
تفتح عنب بلدي في هذا التقرير ملف الأدوار التي تلعبها كل من روسيا وإيران، كحليفين عسكريين أساسيين للنظام، ومستقبل الجيش السوري في ظل التحولات التي طرأت عليه، والتدخلات فيه.
وتعتمد تسمية “الجيش السوري” للإشارة إلى الكيان العسكري التابع للنظام، كبنية قد تخضع لمزيد من التحولات، وفق عمليات دمج أو إعادة هيكلة مستقبلًا، بعد الحل في سوريا.
الدور الروسي في “الجيش السوري”..
تدخل وقائي وضبط مصلحي
بعد دخول الروس عسكريًا بشكل رسمي في سوريا، في أيلول 2015، إلى جانب النظام السوري، لوقف تمدد فصائل المعارضة في مساحات واسعة من الأراضي، توقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يكون التدخل مؤقتًا لثلاثة أو أربعة أشهر وعبر السلاح الجوي فقط، لدعم القوات البرية التي كانت تتجسد حينها بقوات النظام السوري إضافة إلى الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني المساند.
كما اعتبر بوتين أن التدخل “وقائي” فقط لمنع وصول ما أسماه “الإرهاب” إلى روسيا، لكن المعطيات العسكرية على الأرض غيرت من الأهداف الروسية، وجعلتها تتعمق، بعد أربع سنوات من التدخل أكثر في سوريا، لتصبح المسؤولة عن الملف سياسيًا وعسكريًا أمام المجتمع الدولي.
ومع المتغيرات الجديدة خلال السنوات الماضية، وانخراط روسيا أكثر في الملف السوري، تغيرت القاعدة الروسية من دعم النظام إلى إدارة الملف بشكل كامل، إلى جانب اغتنام الفرص، التي تجسدت في تأكيد دورها على الساحة الدولية بوصفها قوة عظمى، إلى جانب تحقيق مكاسب اقتصادية.
ونتيجة لذلك لم يعد تدخل روسيا يقتصر على سلاح الجو، إذ زجت بقوات برية على الأرض اتخذت أسماء عدة منها “الشرطة العسكرية الروسية”، التي انتشرت في “مناطق المصالحات” التي دخلها النظام السوري بعد تسويات مع فصائل المعارضة مثل الغوطة الشرقية ودرعا في الجنوب، إضافة إلى إرسال “وحدات الحماية الخاصة” ومجموعات أمنية روسية يطلق عليها “فاغنر”.
آليات روسية للتدخل في “الجيش”
مع تزايد خسائر قوات النظام السوري في المعارك ضد فصائل المعارضة، وتجذر إيران في قوى الجيش والأمن التابعة للنظام عبر ميليشيات دعمتها، بدأت روسيا بإحداث إصلاحات في بنية وهيكلية الجيش السوري في محاولة للتأثير على قراراته، وتجسد ذلك في تشكيل قوى وفيالق عسكرية تابعة لها، إضافة إلى الضغط على النظام لإصدار بعض القوانين والقرارات، منها ما يتعلق بقانون الخدمة العسكرية والاحتياط ومنها ما يتعلق بقرارات تسريح الضباط وتنقلاتهم.
وكانت البداية في تشكيل “الفيلق الخامس”، الذي يعتبر مشروعًا روسيًا بامتياز، وشُكّل بقرار من القيادة العامة التابعة للنظام السوري، في 22 من تشرين الثاني 2016، تحت اسم الفيلق الخامس “اقتحام” بهدف القضاء على “الإرهاب”.
وقالت القيادة آنذاك إن تشكيل الفيلق يأتي “استجابة للتطورات المتسارعة للأحداث، وتعزيزًا لنجاحات القوات المسلحة، وتلبية لرغبة جماهير شعبنا الأبي في وضع حد نهائي للأعمال الإرهابية على أراضي الجمهورية العربية السورية”، محددة شروط الانتساب وداعية الجميع للالتحاق به.
وهدفت روسيا من تشكيل الفيلق إلى ضرورة استيعاب “الميليشيات المحلية” في بنية تنظيمية عسكرية توازي نفوذ الميليشيات الإيرانية على الأرض، كما كان بند الالتحاق بـ “الفيلق” مقابل تسوية أوضاع المقاتلين في صفوف المعارضة حاضرًا في جميع المفاوضات التي خاضتها روسيا مع الفصائل في “مناطق التسويات”، التي كان آخرها في تموز الماضي عندما انضم قائد فصيل “أسود السنة” في درعا، أحمد العودة، إلى الفيلق.
كما عملت روسيا على تدريب قوى عسكرية عرفت باسم “قوات النمر” التي يترأسها العميد سهيل الحسن، الذي كرمته وزارة الدفاع الروسية بـ “وسام الشجاعة” عام 2016، عازية ذلك إلى محاربته تنظيم “الدولة الإسلامية” في ريف حماة الشمالي.
وغيرت “قوات النمر” اسمها إلى “الفرقة 25 مهام خاصة- مكافحة الإرهاب”، في آب 2019، وتداولت صفحات ووسائل إعلامية خبر تغيير اسم القوات التي تشارك في العمليات العسكرية التي تشنها قوات النظام السوري في إدلب وريف حماة، بتوجيهات من رئيس النظام، بشار الأسد.
وتعتبر “قوات النمر” من الأكثر فاعلية في قوات النظام السوري، وعرفت في عملياتها العسكرية باتباع سياسة الأرض المحروقة، واعتمد عليها النظام السوري في عدة مناطق سورية، بدءًا من مدينة مورك بريف حماة وصولًا إلى مدينة تدمر بريف حمص الشرقي، لتنتقل بعدها إلى مدينة حلب، وفيما بعد إلى الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي ومحافظتي درعا والقنيطرة.
وإلى جانب ذلك بدأت روسيا بالإشراف على تدريب قوات النظام السوري على الرمي الميداني وأجواء المعارك، إذ نشرت قناة “روسيا اليوم” مقطعًا مصورًا من التدريبات، في 25 من أيلول الماضي، يظهر إشراف ضباط روس على تدريب قوات النظام من “القوات الخاصة” في محيط مدينة دمشق.
وطرحت التحركات الروسية السابقة إشارات استفهام حول الهدف الذي تسعى إليه موسكو، إضافة إلى المدى الذي أصبحت فيه موسكو تتحكم بقرارات الجيش والسيطرة عليه.
هل روسيا تتحكم بـ”الجيش”؟
في استطلاع للرأي أجرته جريدة عنب بلدي عبر صفحتها على “فيس بوك” رأى 85% من المشاركين الذين بلغ عددهم ألفًا، أن الروس يتحكمون بمفاصل الجيش السوري.
لكن الباحث في مركز عمران للدراسات، معن طلاع، يرى أن من يمتلك قرارات التعيين والنقل والتسريح، أي النظام، هو من يتحكم بالجيش، رغم الاعتقاد الذي ساد خلال العقود الماضية أن الجيش في سوريا كان تابعًا للمعسكر الشرقي، الذي كان متمثلًا آنذاك في الاتحاد السوفيتي قبل انهياره،
وأوضح طلاع أن الجيش يحوي نوعين من الضباط على مستوى القيادة، الأول هم الضباط التقنيون المسؤولون عن هيكلية تنظيم الجيش وتقديم اقتراحات وإعداد جداول التعيين والترفيعات، وكان جزء منهم مرتبطًا بموسكو، كون سياسة تسليح الجيش روسية، إضافة إلى أن سوريا تحسب سياسيًا على المعسكر الشرقي.
أما النوع الثاني من القيادات فهم الذين يتمتعون بعلاقات مهمة مع مؤسسات عسكرية أخرى لها علاقة بخطط التحالفات والدورات العسكرية، مثل التشيك وكوريا الشمالية، إضافة إلى الدول العربية مثل مصر والسودان.
إلى جانب النوعين السابقين، يوجد الذراع الاستخباراتي الذي يراقب الجيش، وفق طلاع، والمتمثلة بالشبكات الأمنية العسكرية، وأبرزها الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وترتبط بالنظام السوري وهو الذي يتحكم بها.
ويشير طلاع إلى أن النظام هو المتحكم الأساسي بالجيش، على اعتبار أن الشبكات الأمنية والاستخبارات العسكرية وقرارات التعيين والتسريح بيده، ولا علاقة لروسيا أو أي دولة أخرى به، في حين كان العلاقة مع روسيا علاقة تقنية توضحها سياسات الدول.
لكن بعد التدخل الروسي والخسارة التي منيت بها قوات النظام السوري، وخاصة القوى النوعية فيه (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة)، وانزلاق الروس أكثر في الملف السوري، حاولت موسكو القيام بإجراء تغييرات في بنية الجيش التنظيمية من أجل إعادة التماسك والتنظيم.
الضبط وإعادة التماسك
تعتبر إعادة الهيكلة في مفهوم الروس بمثابة “إعادة التماسك وضبط الجيش”، وليست تنافسًا على ملكية الجيش، بحسب طلاع، وذلك لهدفين، الأول حفظ المكتسبات وتخفيف العبء عنها، ومنع استمرار تدحرجها وانزلاقها في الملف السوري عسكريًا، باعتبار أنه طالما لا يوجد جيش متماسك فالروس مستمرون بالتورط إلى مدى بعيد، وهو بالمعنى العسكري يطلق عليه “الاستنفاد”.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكد في حزيران 2017، أن “أولويات روسيا ومهمتها على المدى القريب، تكمن في زيادة مستوى الجيش السوري وقدراته القتالية، لكي تتمكن بعد ذلك من الانسحاب بهدوء إلى مراكز المرابطة في حميميم وفي قاعدة طرطوس، ولتتيح للقوات السورية فرصة العمل بفعالية وتحقيق أهدافها المرجوة”.
أما الهدف الثاني للروس فيتعلق بكينونة الجيش وعدم جعله منصة ومكانًا للتنافس بين القوى الأخرى المنخرطة في الشأن السوري (مثل أمريكا وتركيا وإيران)، وهذا يتعلق بالصيغة السياسية المقبلة في سوريا والتي لم تتضح خطوطها بعد، بحسب طلاع.
وأشار طلاع إلى أن من يتحكم بالجيش هي السلطة السياسية والمتمثلة حاليًا برئيس النظام، بشار الأسد، كون النظام في سوريا رئاسيًا، لكن في حال إفراز سلطة سياسية جديدة مستقبلًا قد تكون بنظام برلماني، يصبح البرلمان صاحب القرار والصلاحيات على الجيش في ظل وجود كتل برلمانية تابعة لدول، والتي قد تؤدي إلى وجود تنافس على بنية الجيش، وهو ما لا تريده روسيا.
تطعيم.. تغلغل..
واتفاقيات إيرانية لإعادة بناء “الجيش السوري”
في الأشهر الأولى لانتشاره في المدن التي شهدت خروج آلاف المتظاهرين، انحصرت عمليات القمع بأفراد الجيش السوري وضباطه الذين كانوا يعطون الأوامر، لكن ومع مرور عدة أشهر، برز دور إيران إلى الواجهة، عن طريق مشاركة عناصر يتبعون لها في قمع المتظاهرين، إلى جانب عناصر الجيش وعناصر الأفرع الأمنية، حيث تركز عملهم حينها على عمليات القنص التي كانت ترافق الحملات العسكرية لعناصر الجيش وحملات المداهمة التي تقوم بها الأفرع الأمنية.
تسارعت التطورات فيما بعد، وتطور الضلوع الإيراني من المشاركة في القمع إلى جانب أفرع المخابرات إلى تشكيل الميليشيات ونشرها كقوات رديفة للجيش، وتوازى ذلك مع تحوّل الحراك السلمي إلى مسلح في سوريا، والإعلان عن تشكيل “الجيش السوري الحر”، الذي حدد أهدافه بالدفاع عن المتظاهرين السلميين، وحماية أحياء المدنيين من حملات المداهمة والاعتقال.
المرحلة الأولى: التغلغل
لفهم الدور الذي تلعبه إيران في هيكلية الجيش السوري، والخطوات التي عملت وتتطلع للعمل عليها في المستقبل القريب، لا بد من سرد مراحل تغلغلها العسكري في سوريا، منذ التدخل الأول في عام 2012، مع بداية انطلاقة الثورة السورية، حتى الوقت الحالي، حيث يدخل الملف السوري مرحلة جديدة، باتجاه “الحل السياسي” عبر خطوات قد تفضي إلى “الإصلاح الدستوري”.
منذ تدخلها الأول في سوريا إلى جانب النظام السوري، عملت إيران على سياسة “التغلغل الطويل الأمد” في الجيش، معتمدة بذلك، كمرحلة أولى، على الميليشيات التي شكلتها ودعمتها ومولتها للقتال إلى جانب قوات النظام السوري، والتي امتد نفوذها على كامل الخريطة السورية، من درعا جنوبًا إلى إدلب وحلب في الشمال، واعتبرت “قوات رديفة”، كما أطلقت عليها الرواية الرسمية.
أسماء الميليشيات منها ما دل على ارتباطها المباشر بإيران وبـ “الحرس الثوري” الإيراني، والقسم الآخر حملت مسميات سورية، لكنها حظيت بدعم إيراني مالي وعسكري بـ “الخفاء”، ودون إعلان ذلك على الملأ، وإلى جانب ما سبق تغلغلت إيران بهيكلية الجيش السوري بصورة أعمق من خلال إقحام مستشاريها العسكريين ومدربيها، وأكدت ذلك التصريحات الرسمية لطهران التي لم تنقطع في السنوات الماضية، وحصرت التدخل الإيراني في سوريا بالدعم الاستشاري والتدريبي.
ويوضح الباحث في مركز عمران، معن طلاع، أن إيران بعد تدخلها في سوريا أصبحت متعلقة ببنية النظام السياسي المتحكم بالجيش، وتحولت من فكرة الميليشيات التي كانت تفرض رؤيتها للصراع في سوريا، بحكم حاجة النظام السوري لها، ووجودها في المناطق الحساسة في سوريا.
ويقول طلاع إن إيران استحوذت في السنوات الماضية على بنية الجيش السوري بشكل أفقي، على خلاف روسيا التي استحوذت عليها بشكل شاقولي، بمعنى أن طهران عملت على التغلغل بشكل نوعي وعلى أمد طويل، انطلاقًا من تشكيل الميليشيات، وما تبعها من الانتقال إلى مرحلة جديدة من الدور العسكري، تمثلت بدمج الميلشيشات وخاصة في القوى النوعية للجيش، كـ”الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري”.
المرحلة الثانية: تطعيم بالميليشيات
تحقيقًا لخطة التغلغل الطويل الأجل في بنية الجيش السوري، كان لا بد لإيران من اتباع سياسة جديدة عقب تشكيل الميليشيات ونشرها في سوريا، التي لم تتمكن من قيادة الدفة بالرغم من الزخم العسكري الكبير الذي قدمته لدعم قوات النظام السوري، إلى أن دخلت روسيا على الخط في عام 2015، الأمر الذي غير المعطيات الميدانية على الأرض، ودفع طهران إلى اتباع استراتيجية من شأنها أن تساعدها على التأقلم مع حليف الأسد الجديد، مع الحفاظ على المصالح التي حددها التدخل الأول في 2012.
الاستراتيجية التي فرضها التدخل الروسي وتغير المعطيات على الأرض، دفعا إلى بدء إيران بدمج حلفائها من الميليشيات المحلية في هيكل عسكري هجين، يكون تحت السلطة الاسمية لـ”المخابرات الجوية” و “الفرقة الرابعة” و “الحرس الجمهوري”.
وفي نيسان 2017 توصلت طهران إلى اتفاق لدمج قوات الدفاع المحلية، التي شُكلت من الميليشيات التي كانت قد رعتها بين عامي 2013 و2014، في القوات الرسمية للنظام (الجيش السوري)، ولم ينتج عن هذا الدمج إنهاء تبعيتها لإيران، بل بقيت بمثابة المسؤول الوحيد عن تسليحها وتمويلها.
الاتفاق جاء في مضمون وثيقة “من شعبة التنظيم والإدارة/ فرع التنظيم والتسليح” مرفوعة إلى “القائد العام للجيش والقوات المسلحة” بشار الأسد، وتم تداولها في عام 2017، وجاء فيها “تنظيم العناصر عسكريين ومدنيين الذين يقاتلون مع الجانب الإيراني ضمن أفواج الدفاع المحلي في المحافظات”.
وأرفقت الوثيقة جدولًا يُظهر أعدادًا للعسكريين المتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية والفارين والمدنيين ومن “سوّي وضعهم” بحسب المحافظات، ونصت على أن تبقى قيادة أفواج الدفاع المحلي في المحافظات العاملة مع الجانب الإيراني للجانب الإيراني، بالتنسيق مع القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة “حتى انتهاء الأزمة في الجمهورية العربية السورية أو صدور قرار جديد”.
المرحلة الثالثة: إعادة بناء
الخطوة الأبرز والبالغة الأثر التي اتبعتها إيران، والتي اندرجت في إطار دورها في بنية الجيش السوري كانت علنية، في الوقت الذي توسعت فيه رقعة سيطرة قوات النظام السوري على الأرض، والخطوات التي بدأت روسيا بالعمل عليها في هيكلية الجيش أيضًا، من خلال تشكيل “الفيلق الخامس”، وبروز دورها الفاعل بشكل كبير.
وفي آب 2018 وقعت إيران والنظام السوري اتفاقية للتعاون في المجال العسكري، ووفقًا لوزير الدفاع الإيراني، أمير حاتمي، فإن بلاده ستقدم لدمشق كل أشكال الدعم لإعادة بناء القوات المسلحة والصناعات العسكرية الدفاعية السورية، بما في ذلك الصواريخ.
ونقلت وكالة أنباء “تسنيم” الإيرانية، في ذلك الوقت، عن حاتمي قوله إن الاتفاقية تهدف إلى “تعزيز البنى التحتية الدفاعية في سوريا التي تعتبر الضامن الأساسي لاستمرار السلام والمحافظة عليه”، وتسمح بمواصلة “الوجود والمشاركة” الإيرانية في سوريا، واعتبر حاتمي أن سوريا “تتخطى الأزمة وتلج إلى مرحلة مهمة للغاية هي مرحلة إعادة البناء”.
وفي مقابلة مع قناة “الميادين” الفضائية بُثت في نفس وقت إعلان الاتفاقية، أوضح حاتمي من دمشق، أن “أهم بند في هذه الاتفاقية هو إعادة بناء القوات المسلحة والصناعات العسكرية الدفاعية السورية لتتمكن من العودة إلى قدرتها الكاملة”.
وقال في المقابلة التي بُثت باللغة الفارسية وترجمتها قناة “الميادين” إلى العربية، “من خلال هذه الاتفاقية مهدنا الطريق لنبدأ بإعادة بناء الصناعات الحربية السورية”.
وبحسب ما يقول العقيد الركن إسماعيل أيوب، الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية،
لا توجد تشكيلات إيرانية ضمن الجيش السوري، بل يوجد مستشارون عسكريون، وخبراء من الجيش الكلاسيكي الإيراني و”الحرس الثوري”.
ويضيف أيوب لعنب بلدي أن المستشارين يعملون مع جميع أجهزة الأمن وقطعات الجيش، “الذين يتبع هواهم لإيران كالفرقة الرابعة، وبعض القطاعات في حلب وإدلب”.
وفي سياق ما سبق، فإن انتشار الميليشيات الإيرانية يتركز إما في قواعد عسكرية تتبع لقوات النظام، أو من خلال تشكيلات خاصة بها معروفة أو مستحدثة وتنتشر في عموم سوريا، خاصة قرب المناطق الحدودية مع الأردن وفي درعا والسّخنة والقلمون وحلب في منطقة الحاضر بالريف الجنوبي.
عدا عن قيام طهران بتعزيز تحالفاتها مع قياديين عسكريين بارزين كقائد الفرقة الرابعة اللواء الركن ماهر الأسد، وقائد الحرس الجمهوري اللواء طلال مخلوف، والقائد السابق للمخابرات الجوية اللواء جميل الحسن.
وبموازاة التغلغل الذي تعمل عليه إيران في بنية الجيش السوري، تستمر روسيا بالدور الذي تلعبه في ذلك أيضًا، والذي ظهر على العلن منذ اليوم الأول لتدخلها العسكري إلى جانب النظام السوري، الأمر الذي يقود إلى تساؤلات حول إمكانية الصدام بين الطرفين اللذين تجتمع مصالحهما في عدة نقاط، وتختلف في أخرى.
ويرى الباحث معن طلاع أن رهان الإيرانيين الأول في سوريا كان بجعل دمشق كحكم سياسي وإداري واقتصادي مرتبط مع طهران، مشيرًا إلى أن النظام السوري مستحوذ من قبل إيران، بحكم امتلاك الأخيرة لشريحة مجتمعية، عدا عن الدور العسكري الكبير الذي تلعبه.
ويوضح طلاع أن إعادة التموضع النوعي لإيران في الوقت الحالي لا يعني التقهقر، وهو أمر يؤكده ارتباط الجيش ببعض القوانين والمعاهدات مع إيران، مشيرًا إلى أن إيران لها باع كبير في الجيش السوري والأمور العسكرية المرتبطة به في سوريا.
بينما يقول العقيد الركن إسماعيل أيوب، إن روسيا تعتمد على الميليشيات الإيرانية في سوريا حتى الآن، “وفي حال انتفت حاجة الروس لهذه الميليشيات سيُتخذ قرار دولي لإخراجها من سوريا بشكل فوري”.
احتمالات الهيكلة أو الدمج
ما مستقبل “الجيش السوري”
اختلفت بنية الجيش السوري بداية الثورة مع موجة الانشقاقات وتكثيف الحضور الطائفي، بالإضافة إلى إنشاء قوى رديفة تقود معارك في مناطق مختلفة من سوريا ضد فصائل المعارضة، ومع التدخل الروسي والإيراني في الجيش، أصبح من الصعب عودته في المستقبل إلى الشكل الذي كان عليه سابقًا، أيًا كان شكل الحل في سوريا.
الشكل الجديد للجيش السوري بعد الحرب، سيقوم على واحدة من آليتين، إما “إعادة هيكلة” أو “إعادة دمج” للفصائل المختلفة في سوريا، سواء الرديفة أو المعارضة أو الكردية، التي شاركت في العمليات العسكرية خلال أعوام الحرب.
العلاقة مع الأرض
يرى الباحث في مركز “كارنيغي للشرق الأوسط” خضر خضور، أن مستقبل الجيش في سوريا يتمحور حول نقطتين أساسيتين، الأولى هي علاقة الجيش مع الأرض، وتتمثل بتوسعه على الجغرافيا السورية بشكل مختلف عن السنوات التي سبقت اندلاع الثورة عام 2011.
ويوضح خضور في حديث لعنب بلدي، “قبل الثورة في سوريا كان الجيش السوري يتوزع بشكل رئيسي في وسط وجنوبي سوريا، إذ كانت فرقه تنتشر في محافظات الوسط (حمص وحماة) ومحافظات الجنوب (دمشق ودرعا والسويداء) مع وجود بسيط في جهة الشرق (الرقة والحسكة ودير الزور)، أما في حلب وإدلب فلم يكن للجيش انتشار ميداني كفرق عسكرية”.
ويضيف الباحث أن “الحروب الداخلية على الأراضي السورية فرضت على نظام الأسد وحليفه الروسي أن يعيدا النظر في علاقة الجيش مع الجغرافيا السورية، فقد تم تأسيس فرقة تابعة للحرس الجمهوري في شمالي سوريا (حلب) والآن الجيش ينتشر في شرقي سوريا ومن المرجح أن يتم إنشاء هياكل عسكرية جديدة في جهة الشرق”، بحسب تعبيره.
لكن الجيش سيواجه معضلة في توسعه ميدانيًا، وهي نقص الكوادر العسكرية في صفوفه، الذي يعوضه حاليًا بمتعاقدين مدنيين، وفق خضور، الذي يرى أن تلك المعضلة ستبقى في المدى المنظور، قائلًا “قد تُحل المعضلة مؤقتًا بفتح أبواب التطوع في الجيش كصف ضباط وضباط واستقبال أكبر عدد ممكن في السنوات المقبلة”، على حد تعبيره.
أما النقطة الثانية التي يتمحور حولها مستقبل الجيش في سوريا، فهي فقدانه للسماء السورية، بمعنى أن الجيش فقد معظم سلاح الطيران من حيث العدة والعتاد، ليخسر بذلك سماء البلاد التي لم تعد ملكًا له، بل يتملكها حليفه الروسي في الوقت الراهن، بحسب خضور، الذي يقول “بناء سلاح طيران سوري جديد سوف يحتاج سنوات طويلة من إعداد كوادر وبناء بنية تحتية حديثة، وهذا غير متاح في الظروف السياسية الحالية”.
تشكيلاته العسكرية المستقبلية
ترتسم الصورة المستقبلية للجيش في سوريا بتشكيلاته الرئيسية المعروفة من الفرق والألوية والتوزع الميداني، في ظل نقص ملحوظ في ضباطه وأفراده وحتى تشكيلاته بعد الخسارات الكبيرة التي تكبدها، وهو ما عمل عليه الحليف الروسي بضم تشكيلات جديدة إلى قوام الجيش السوري للحفاظ عليه، كـ “الفيلق الخامس” الذي ضم عناصر التسوية (المعارضة السابقة) وتركز عمله مع قوات الجيش النظامي.
كما عرض الروس مؤخرًا انضمام “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى صفوف “الفيلق الخامس” في الجيش السوري، كخطوة لضم تلك القوات إلى الجيش النظامي، الأمر الذي ربطته “قسد” بالحل السياسي الشامل في سوريا، وهذا ما يشير إلى الخطة الروسية الرامية للحفاظ على تشكيلات الجيش في سوريا ليتناسب مع المرحلة المستقبلية.
أما في حالة فصائل المعارضة، فيعمل الروس والنظام على ضم عناصرها بعد تسوية أوضاعهم إلى تشكيلات الجيش وفق معايير محددة تتنوع بين المنشقين السابقين عن الجيش، وبين المتطوعين الجدد بعد فرض الانضمام والقتال في صفوف الجيش كشرط للتسوية.
ويرى الباحث في مركز “كارنيغي للشرق الأوسط” خضر خضور، أن ضم الفصائل المعارضة التي تدعمها تركيا إلى تشكيلات الجيش النظامي في سوريا، يتوقف على الاتفاقيات الروسية- التركية في الأشهر والسنوات المقبلة، مضيفًا، “سيكون للروس دور مهم بذلك الأمر عبر إنشاء كيان مرتبط بالجيش ولكن ليس الجيش نفسه”، بحسب تعبيره.
لكن في حالة “قسد” لن يكون هناك دمج مع جيش النظام في سوريا، إذ يسعى الأخير إلى تفكيك تلك القوات ليعيد ضم عناصرها كأفراد إلى قواته وفق شروط التسوية، بدل دمجها ككيان واحد ضمن تشكيلاته العسكرية، وفق رؤية خضور.
ويصر النظام السوري على التعامل مع تلك القوات (قسد) إلى صفوفه، عبر دعوة العناصر لتسوية أوضاعهم والانضمام إليه، وليس التعامل مع تلك القوات ككيان أو قوى مستقلة يجب التحالف معها وإعطاؤها تشكيلًا خاصًا في تشكيلاته العسكرية، وهو ما أكده بيان وزارة الدفاع السورية الصادر في 30 من تشرين الأول الماضي.
تحديات إعادة الهيكلة
تبدو طروحات إعادة هيكلة الجيش السوري صعبة في الوقت الراهن، في ظل تحديات عدة، مع عدم توفر الشروط لإنجاز اتفاق سياسي في سوريا دافع للتغيير والتحول الديمقراطي، كشرط لعملية إعادة الهيكلة.
وفق دراسة صادرة عن مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” في أيار 2019، بعنوان “المؤسسة العسكرية السورية في عام 2019: طائفية وميليشياوية واستثمارات أجنبية”، فإن من أبرز التحديات أمام هيكلة الجيش هو عدم إمكانية ضبط علاقته مع المؤسسة الرئاسية وصعوبة تحقيق التحول الديمقراطي.
وبحسب الدراسة تتطلب هيكلة الجيش إنتاج اتفاق سياسي “يتيح لمؤسسات شرعية وذات مصداقية شعبية البدء بعملها وفق قواعد التغيير والانتقال الديمقراطي”.
ويبقى للمقاربات الدستورية والقانونية دور مهم في تحقيق السيطرة المدنية على الجيش، من خلال تقييد مهمته دستوريًا.
بينما “لا تنذر عمليات الدمج وإعادة التأهيل الراهنة في الجيش إلا ببناء شبكي يحوله لميليشيا كبرى تتداخل فيها مصالح الحلفاء (النظام وإيران وروسيا) وتتباين”.
عمليات ترميم
بدوره يرى معن طلاع، الباحث في مركز عمران للدراسات، أن الجيش السوري أمام تحديات كبيرة بعد أن وصل إلى مرحلة متقدمة من الاختلال على المستوى الجهوزي والتنظيمي والتمويلي وهذا ما يعمل عليه الجانب الروسي بالحفاظ على هيكلية الجيش في سوريا، ودمج جميع الميليشيات الأخرى ضمن تشكيلاته حفاظًا على تماسكه وفق التشريعات الدستورية السورية، بهدف نزع التدخلات الخارجية من التحكم بالجيش السوري مستقبلًا بعد التسوية السياسية، بحسب تعبيره.
ويضيف طلاع في حديث لعنب بلدي، أن الجيش السوري يمتلك القدرة التشريعية والدستورية والعسكرية لأنه يمسك زمام القيادة، وهذا ما يجعله يعمل على ترميم بنيته والتماشي مع الخطة الروسية لإعادة ضم جميع التشكيلات الرديفة إلى صفوفه، ليتمكن من قيادة المرحلة المقبلة بشكل قوي.
ومن المتوقع أن تعمل الدول الحليفة للنظام والضامنة للملف السوري، بإشراف الأمم المتحدة، على انتشار الجيش وتمكينه عسكريًا ولوجستيًا بما يتناسب مع المرحلة المقبلة في سوريا، خاصة مع الاتفاق على حل سياسي بين الأطراف المعنية.