عنب بلدي – يامن المغربي
استخدم المتظاهرون اللبنانيون في حراكهم وجه “الجوكر” للتعبير عن رفضهم الخوف، وتمردهم على التيارات السياسية، مستمدين الجرأة من الشخصية السينمائية التي انتشرت بشكل واسع مؤخرًا.
وتزامن انتشار الفيلم، الذي حقق نجاحًا واسعًا، مع انطلاق الاحتجاجات اللبنانية، في تشرين الأول الماضي، الأمر الذي جعل من بطله المتمرد، رمزًا مستساغًا للمتظاهرين، الراغبين بـ “تغيير الواقع”.
التظاهر ليس رد الفعل الوحيد الذي يستمد جزءًا من إلهامه من الأعمال الفنية أو السينمائية، بل يعتمد السلوك الثوري للبشر عمومًا على رموز ومفاهيم، تتشكل بجزء منها بفعل التعرض المستمر للأعمال الفنية.
التظاهر كشكل لرد الفعل
لا تحض الأعمال الفنية الناس على التظاهر بشكل مباشر، لكنها تزرع في داخل الأشخاص تساؤلات وأفكارًا معينة، قد تكون محركًا للتمرد، والتعبير عن رفض الواقع من خلال التظاهر، كشكل من أشكال التعبير السلمي عن الرغبة في التغيير.
صور من عدة مظاهرات حول العالم انتشرت لمتظاهرين يرتدون أقنعة مقتبسة من أعمال فنية، تدعو للتظاهر والاحتجاج على الأوضاع المعيشية ضد السلطات القائمة، الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات حول الدور المحوري للفن في الدعوة إلى التظاهر، وأثره في تشكيل وعيهم في هذا الاتجاه.
يرى المخرج السوري أيهم سلمان، أن الفن لا يمكن أن يدفع الناس للتظاهر، لكنه يحرض على القيام بـ “رد فعل” على حدث قائم، يرسب في اللاوعي لدى الناس، ويكوّن لديهم تصورًا ما عن نمط حياة معين، أو ما يجب أن يكون.
ونتيجة ذلك، تتكون أشكال من الردود على أفعال معينة، كما حصل في احتجاجات العاصمة اللبنانية، بيروت، إذ يتحكم الفن برد الفعل أكثر من دفعه للقيام بالفعل، وفق ما قاله سلمان لعنب بلدي، “وإلا كنا رأينا مظاهرات خرجت بعد عرض هذه الأعمال الفنية مباشرة”.
رأي سلمان يتطابق مع رأي الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، الذي يرى، أن الأعمال الفنية لا تخلق الظاهرة بل تؤثر في طريقة فهمها، وبالتالي تؤثر بشكل استجابتنا لها وشدة هذه الاستجابة.
ويصف موشلي استعارة الرموز والشعارات في التظاهرات من أعمال سابقة واقعية أو فنية بـ “المهم” لسببين، الأول للقول إن المتظاهرين جزء من ظاهرة سابقة نجحت ويسيرون إلى نجاح متوقع، أما الثاني فهو لصنع “فصل وتمييز” للتجمع الجديد المحبب والمختلف عن القديم عبر تبني الرموز الجديدة.
بين المجتمع المرفوض والفردانية المتعبة
ما يميز الاجتماع البشري أنه يشكل إنسانية البشر، فالفرد لا يستطيع تصور نفسه ككائن معزول عن أسرته ومحيطه، لذا يحرص الفرد على دعم التجمع الذي ينتمي إليه، لضمان ديمومة “الانتماء الأثير”، بحسب موشلي.
ودور الفن هنا، “هو أن يقول للفرد المتوتر وغير المنسجم مع انتمائه، ولكنه بنفس الوقت مذعور من الفردنة، إنه لن يخاطر كثيرًا”، بل سينتقل من هذا التجمع غير المناسب لتطلعاته وكفاءاته، إلى تجمع آخر أكثر ملاءمة له، ولأجل ذلك قد يلجأ إلى التظاهر كأداة للتغيير.
وضمن النزعة البشرية إلى التجمع، يبرز الدور الذي تلعبه الأعمال الفنية، فوفق المخرج هشام الزعوقي، تصنع الأعمال الفنية المزاج العام، وتؤثر على تشابه الأفراد في بيئة ما.
ويضرب الزعوقي مثالًا السينما الأمريكية، التي تؤثر في طريقة كلام الأمريكيين وشكل لباسهم ونمط حياتهم، إذ كان لدى “هوليوود” القدرة على التأثير المباشر على الناس، قبل ثورة الاتصالات الحالية.
ولا يتوقف دور الفن عند خلق أنماط مشتركة في مجتمع ما، بل يسهم في نقل تجارب مجتمعات أخرى، وفتح الباب أمام التأثر بها. “ربما فيلم وثائقي يتم إنتاجه في السويد، يجعل الناس يندبون حظهم لأنهم ولدوا في الشرق الأوسط ويجعلهم يتساءلون لماذا لسنا مثلهم؟”، يقول المخرج أيهم سلمان.
فحتى لو لم تكن هذه التصورات حقيقية، لكنها تجعل الناس يتعلقون بأبطال يحملون قيمًا وصفات معينة تترسخ في عقولهم.
على سبيل المثال، بعد انتشار فيلم “For Vendetta” استخدم متابعوه أقنعة الأناركيين أبطال الفيلم، ثم انتشرت أقنعة مسلسلa Casa De Papel” L” الشهير.
إذ يعتقد المشاهدون والمتأثرون بهذه الشخصيات أن الظرف الذي يعيشونه سيئ ومن الممكن أن يكون أفضل، وهذا ما يكوّن لديهم سلسلة سلوكيات، تأخذ شكل رد الفعل، بحسب سلمان، وهو ما قد يتم ترجمته كفعل ثوري.
رد فعل سلمي أم أكثر؟
تملك السينما والمسلسلات التلفزيونية عدة عناصر تشكل “صورة العمل الفني” الذي يشاهده الناس، وتلعب دورها في إقناعهم بصدق ما يشاهدونه حتى تصل إلى درجة التأثير المطلوبة، وكل ما زاد التأثير زاد نجاح العمل الفني.
ومع التأثر بالعمل الفني، يمكن إسقاطه على الواقع، فعلى سبيل المثال مسلسل “La Casa De Papel” يدعو إلى الثورة على الأنظمة الاقتصادية المتحكمة، والفاسدين ممن يأخذون شكل دولة، وهو ما يمكن إسقاطه على ما يحصل فعلًا في العالم العربي، وفق سلمان.
فالاحتجاجات في لبنان حاليًا تتعلق بالشق الاقتصادي، وكذلك في العراق، حيث تسود في الدولتين حالة ملل شعبي من السياسات العامة، ومع تقاطع أفكار المسلسل مع الواقع تنتج سلسلة مقاربات تولد مجموعة سلوكيات، منها استخدام الرموز والشعارات.
لكن الناس لا ينساقون بالضرورة إلى المثل الإيجابية، بحسب سلمان، فالأفلام التي تتحدث عن القتلة المتسلسلين، أو التي تتحدث عن العنف أو عن أشخاص لديهم اضطرابات نفسية، تؤثر على بعض الأشخاص الذين يطبقون ما يرونه بحذافيره.
ويرى المخرج هشام الزعوقي أن هناك توجهًا “لتبرير الشر” في الأعمال السينمائية الجديدة، فنهايات انتصار الخير أصبحت قديمة، وبات الشر يستوجب تعاطفًا وتبريرًا، “فالمشاهدون لا يتمنون مثلًا أن تأتي الشرطة لتمسك بعصابة تقوم بسرقة بنك”.
ووفق رأي المخرجَين فإن السلوك أو رد الفعل المتأثر بالأعمال الفنية قد لا يكون بالضرورة مثاليًا، بل قد يتأثر بالشخصيات الفنية التي تأخذ حيزًا من الاهتمام العالمي، سواء كانت شخصيات مسالمة أو عنيفة.