بؤس الحلول الطائفية
إبراهيم العلوش
انتفاضة اللبنانيين ضد العهد الطائفي، وانتفاضة العراقيين ضد الأحزاب والمرجعيات الطائفية، تودي اليوم مع الثورة السورية بالحلول الاستشراقية للمنطقة، التي تصنف شعوب الشرق الأوسط على أساس مللي وطائفي، وتصفهم بأنهم بشر غير قابلين للاستثمار السياسي.
في لوحات الاستشراق الغربي كان العرب يصوَّرون كبشر غارقين في الجنس والحشيش والمؤامرات، وبمثل هذه التصنيفات المسبقة استثمرت الدول الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وكان حجر الزاوية هو الاستثمار في الاستشراق السياسي، المتمثل في حماية الأقليات الدينية في الدولة العثمانية، وتحويل بعض المرجعيات الدينية إلى سفارات لفرنسا أو بريطانيا أو روسيا منذ القرن التاسع عشر، ولعل آخر هذه الاستثمارات مؤتمر حلف الأقليات (عنوان نسخته الأولى: اللقاء المشرقي) الذي افتتحه الرئيس اللبناني ميشال عون في 13 من تشرين أول الماضي في بيروت، وقبل أيام من الانتفاضة اللبنانية، وبرعاية إيرانية عبر حزب الله، وبوجود صلب لنظام الأسد في مسيرة شيطنة طائفة وتحويلها بالقوة إلى كيان سياسي موسوم بالإرهاب الداعشي!
ولكن في السابع عشر من تشرين الأول نفسه، نزل اللبنانيون إلى الشوارع ضد العهد العوني، الذي يسانده حزب الله الإيراني، وأعلنوا ثورتهم التي تطالب بوقف الفساد، وكان تكاتف اللبنانيين صادمًا للعهد الطائفي ورموزه مثل جبران باسيل وحسن نصر الله اللذين يخاطبان الناس برفع أصابعهم بوجوههم، ورغم محاولات حركة أمل، المدعومة من نظام الأسد ومن إيران بالإضافة إلى حزب الله، تقويض الانتفاضة، إلا أنها كانت أصلب وأكثر إصرارًا على شعارها المنادي بإسقاط الزعامات الطائفية (كلن يعني كلن.. ونصر الله واحد منن!)
وبالتزامن مع الانتفاضة اللبنانية، تجددت المظاهرات العراقية ضد رموز الزعامات الطائفية، فكون الحاكم من نفس الطائفة لا يعني أنه مطلق اليدين بالنهب والسلب والتخويف والعمالة لإيران بحجة المذهب الديني، فالمرجعيات الطائفية حوّلت العراق إلى محمية فارسية مثلما فعل حزب الله في لبنان، وبشار الأسد في سوريا، حيث عمل المال البترولي الإيراني على تقويض الدول المحيطة بحجة إعادة الإمبراطورية الفارسية وبذرائع طائفية، في حين أن الشعب الإيراني يصطف بطوابير طويلة من أجل الحصول على المساعدات أو على المواد الغذائية بأسعار مخفضة بعد أن فعل الحصار الأمريكي فعله في تقويض نمو الاقتصاد الإيراني وجره إلى الانهيار.
الإفلاس الإيراني أوقف الرشاوى ورواتب ميليشياته في الدول المجاورة، وفرمل الاندفاع الإيراني للهيمنة على المنطقة العربية، وجعل حزبًا إيرانيًا مهمًا في لبنان مثل حزب الله يستنجد بجماهيره من أجل التبرع لتمويل عمليات الحرب في سوريا، بالإضافة إلى لجوئه لزراعة الحشيش في القصير الحمصية، والهيمنة على سوق المخدرات بين سوريا ولبنان، وخاصة تجارة حبوب الكبتاغون.
انتفاضة اللبنانيين والعراقيين هزّت أسس نظام المحاصصة الطائفية، وجعلت هذا الحلم الطائفي يبدو مسمومًا، ونفضت الغبار عن ثورة السوريين وأعادت الأمل لهم رغم كل الكوارث التي يسوقها عليهم نظام الأسد.
لقد تم ترسيخ نظام المحاصصة الطائفية في لبنان بمؤتمر الطائف (1989) الذي عُقد لإنهاء خمسة عشر عامًا من الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) التي شارك بها حافظ الأسد ودرّب جيشه هناك على النهب والسلب، وعلى قصف المدنيين وتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم.
لكن هذا النظام الطائفي استنفد فرص بقائه، وجعل اللبنانيين ينتفضون ضده في مشاهد احتجاجات شعبية أحيت الأمل للثورة السورية وأعادت رفع شعاراتها وأغانيها، فالانتفاضة التي بدأت بالاحتجاج على فرض ضريبة على “الواتساب” توسعت اليوم لترفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، والمتظاهرون غير آبهين بالتخويف من المصير السوري، بل أعادوا فهم الثورة السورية التي لم تعد بالنسبة لهم مجرد تصنيفات طائفية وإرهاب وهمجية كما يروج نظام الأسد وميليشياته ضد السوريين، وعرف اللبنانيون لماذا لا يعود اللاجئون السوريون إلى سوريا بوجود هذا النظام وحليفه حزب الله والمحتلين الآخرين.
أما العراق فقد تحول إلى محمية إيرانية أمريكية منذ احتلاله في عام 2003، وأُرسي قانون الاقتسام الطائفي فيه بشكل بروتوكولي أوحى لشعوب المنطقة بأن هذا هو مصيرها وهذا هو السقف الذي تستحقه، فاقتُسمت المناصب الكبيرة والصغيرة بخطة طائفية محكمة، ولكن هذا الاقتسام سرعان ما صار تبريرًا للنهب والسلب، بعد خمسة عشر عامًا من إرساء هذا النمط الطائفي، فالعراق ليس فيه كهرباء، ولا خدمات، ولا فرص عمل، رغم أنه ينتج أربعة ملايين برميل نفط كل يوم.
وفي سوريا رسخ حافظ الأسد بناء الدولة الطائفية وهيمن على أجهزة الأمن والجيش وخنقها بعملائه ومخبريه وحوّل البترول إلى ملكية شخصية تحت شعار “البترول في أيدٍ أمينة” وبنى مؤسسات الدولة على أساس الهيمنة الطائفية ولكن بواجهة علمانية زائفة، كنوع من التحايل الذي سرعان ما تجلى في مواجهة نظامه لثورة 2011، فصار النظام أهم من الوطن، وصار استمرار ابنه بشار أهم من بقاء سوريا، وقد دمرت سلطته وجيشه سوريا وهجرت أهلها بحجة أنهم إرهابيون، ولعل اشتراك النظام في ترسيخ تحالف الأقليات كان منهجًا عميقًا للسير في حروب أهلية غير قابلة للتوقف، وهذا ما يرسخ حكم عائلته عقودًا طويلة.
لكن السوريين لم يقبلوا، واللبنانيون لم يقبلوا، والعراقيون لم يقبلوا، وانتفاضات الشرق الأوسط ليست حدثًا عابرًا ولا حدثًا طائفيًا، بل هي ثورات ضد الفساد والاستبداد ومن أجل بناء دولة المواطنة العادلة، إنها ثورات تجدد نظرتنا إلى أنفسنا ونظرة الآخرين إلينا، فنحن شعوب نحب الحياة ونتطلع لمستقبل جديد خارج هذا الاستثمار الطائفي البائس.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :