محمد رشدي شربجي
في منتصف آذار الماضي قال مدير الاستخبارات الأمريكية جون برينان إن «الصراع في سوريا لن يحسم في ميدان المعركة، بل عن طريق التفاوض، فلا الولايات المتحدة ولا روسيا والدول الإقليمية، ترغب في انهيار المؤسسات في سوريا».
التقدم الأخير للثوار في شمال سوريا قد يراه الأمريكيون يصب جزئيًا في اتجاه استراتيجيتهم، التي لخصها جون كيري في لقاء سابق «تغيير حسابات الأسد لإجباره على التفاوض».
يعني «التفاوض في النهاية» اعتراف جميع الأطراف داخل سوريا بمناطق نفوذ لكل منها، وإقرار كل طرف للآخر بعدم قدرته على هزيمة الطرف الآخر في مواقعه، ببساطة أخرى هو تقسيم غير معلن ستعلنه مرحة التفاوض في النهاية.
ومع بروز الهويات العرقية والمذهبية على السطح أكثر من أي وقت مضى، وتوجه الحرب أكثر فأكثر نحو التمايز والاستقطاب العرقي والمذهبي، فإنه من المتوقع أن تكون صيغ التفاوض المستقبلية مبنية بطريقة أو بأخرى على معطيات فئوية تعتمد منطق المحاصصة.
يعيد هذا إلى الأذهان «اتفاقية دايتون» التي أنهت الحرب الدموية في جمهورية البوسنة والهرسك، وهي اتفاقية جرى التفاوض بشأنها في مدينة دايتون الأمريكية في تشرين الثاني من العام 1995، وتم التوقيع عليها في مدينة باريس في كانون الأول من العام نفسه.
بموجب الاتفاقية فقد تم تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك بشكل متساو تقريبًا إلى كيانين سياسيين، جمهورية صرب البوسنة تتألف بشكل أساسي من الصرب البوسنيين، وفيدرالية البوسنة والهرسك وتتكون من مسلمي وكروات البوسنة، كما أقرت الاتفاقية تشكيل مجلس رئاسي لعموم الجمهورية تكون رئاسته بالتناوب بين مكونات البوسنة الثلاث (المسلمون، الصرب، الكروات)، ونشرت بموجب الاتفاق قوة التنفيذ التي قادها حلف شمال الأطلسي (آيفور).
مضت قرابة 20 سنة على توقيع الاتفاق، والمتتبع لأحوال البوسنة والهرسك يدرك أن الاتفاقية المذكورة أوقفت الحرب هناك التي استمرت ثلاثة أعوام ونصف، ولكن بدون تحقيق عدالة، كما تركت البلاد مجزأة ومفككة، وهو ما أصابها بحالة من الشلل التام، مع دستور معطل ومفتقر إلى العدالة والإنصاف.
ضمن أعمال منتدى الجزيرة التاسع، نظم المنتدى ندوة بعنوان «الأزمة السورية وفرص تكرار سيناريو البوسنة» شارك فيه حارث سيلاديتش، رئيس البوسنة والهرسك السابق ووزير خارجيتها، ولؤي صافي مؤسس المجلس السوري الأمريكي، والصحافي روي غوتمان الذي شارك بتغطية الأحداث في البلدين، والسيد محمد دسيس.
يرى حارث سيلاديتش أن التجربة البوسنية كانت تجربة مرة، ولكنها كانت ضرورية للخروج من الحرب وتحقيق السلام، فصحيح أن الاتفاقية ليست كاملة لكنها تبقى بالتأكيد أفضل من خيار حرب مدمرة، خاصة أن الحرب السورية استمرت أكثر من البوسنية، وعليه ينصح سيلاديتش السوريين (مع قناعته باختلاف السياق التاريخي لكلا الحالتين) أن يحاولوا البحث عن اتفاقية على غرار اتفاقية دايتون، حيث يرى سيلاديتش أن إيقاف تدهور الأجيال السورية الناشئة هو أولوية قصوى يجب وضعها في الحسبان.
أما لؤي صافي فيشير إلى التشابهات الكبيرة بين التجربتين، فكلا البلدين ذو أكثرية مسلمة، وكلاهما متنوع دينيًا وعرقيًا، إضافة إلى اللامبالاة التي ميزت أداء المجتمع الدولي تجاه الأزمتين.
الصحفي روي غوتمان أشار بدوره إلى حجم المعاناة الإنسانية السورية، التي بلغت أضعاف البوسنية، مقارنًا ردة فعل المجتمع الدولي الذي تميز بالحالة السورية باستهتار أكبر.
يتفق المشاركون إذن على المشتركات بين التجربتين، كما يتفقون على أن الاتفاقية كانت أقل الضرر، حيثت حكمت البوسنيين الخيارات ذاتها التي تحكم السوريين الآن، أيهما أفضل؟ استمرار الحرب؟ أم إيقافها بحل أعرج مع مستقبل ضبابي؟
التجارب الناتجة عن المحاصصة الطائفية والعرقية (لبنان والبوسنة كمثالين) دائمًا ما أنتجت دولًا فاشلة، بل والأخطر أنها كرست هذا الفشل و «دسترته» وأمنت له ظروف الاستدامة، ولكنها بالمقابل أوقفت المعاناة وأوجدت احتمالية -ولو مجهرية- لتخاطب مكونات البلد الواحد بالكلام بدل الرصاص.
ليس هنالك من خيار جيد في هذه الحالة، ويبقى الخيار الوحيد المتاح هو البحث عن «أقل الخيارات سوءًا» وهو إيقاف الحرب بأي شكل، وتظل الحقيقة التاريخية الراسخة التي تثبتها التجربة السورية، كما فعلت اللبنانية والعراقية والبوسنية وعشرات التجارب الأخرى، أنه لن يكون هناك رابح في الحرب الأهلية، وما لم تستطع مكونات أي بلد تجاوز هوياتها الفرعية لصالح هوية وطنية جامعة فسيبقى هذا البلد يتأرجح بين الحرب الأهلية الساخنة، والحرب الأهلية الباردة.