عنب بلدي – نينار خليفة
يكفي أن تراقب تعليقات السوريين ومنشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي أو حواراتهم الشخصية ليوم واحد، لتكتشف كمّ الانقسام واختلاف وجهات النظر الذي يفسد للود قضية، ويفرق بين الأصدقاء وحتى الأهل والأزواج.
حالة من الانقسام الحاد والاستقطاب المرضي، أصبحت السمة السائدة بين السوريين، فبمجرد أن تختلف مع أحدهم في الرأي، تجد أن هذا الخلاف اتخذ شكلًا ومنحى آخر ليتحول الأمر في نهاية المطاف إلى إقصاء الآخر وتسفيه أقواله وإهانته، بل قد يصل الأمر إلى حد كراهيته وتخوينه.
أن تمارس حرية التعبير في المجتمع السوري اليوم، كأن تمشي في حقل ألغام رقابي، فأنت معرض لأن ينفجر بوجهك في أي لحظة الآخر المختلف مهما صغر السبب والقضية التي يُختلف حولها.
فما أسباب تراجع حرية التعبير في الرأي بين أوساط العديد من السوريين؟ وهل هي تتراجع بالفعل أم أننا لم نعشها يومًا؟
عنب بلدي استطلعت آراء عدد من الناشطين المدنيين، لنقاش هذه المسألة، وكيف أثرت التحولات السياسية والعسكرية بعد عام 2011 على نقاشات السوريين وتقبلهم للآخر.
النقاش السوري.. من إطار قيمي إلى سياسي مصلحي
يرى حمزة المصطفى أنه خلال السنوات الأخيرة، ومع تحول الثورة السورية إلى أزمة دولية يحدد اللاعبون الكبار مصيرها، دخلت نقاشات الفضاء العام مرحلة جديدة مختلفة عما سبق، فبينما كانت المبادئ والبرامج والرؤى السياسية هي الطاغية في الفضاء العام ينحصر الاختلاف حولها بالمشارب الفكرية والسياسية، أصبح النقاش على المصالح والتوازنات والصراعات الدولية هو الأساس، وانتقل النقاش السوري من إطار قيمي إلى إطار سياسي مصلحي بحت.
وتزامن تزاحم الفاعلين الدوليين ومشاريعهم في سوريا، مع انتقال شريحة كبيرة من الناشطين ومؤيدي الثورة إلى دول الشتات، ما أدى إلى انتقال الاختلافات بين الدول إلى ساحات تموضع جديدة للناشطين، وبات كل واحد منهم يدعم مشروعًا يرى أنه يصب في إطاره المحلي، إن لم نقل الشخصي بدلًا عن الوطني، وكان ذلك نتاجًا طبيعيًا لتحول الوطن إلى أجزاء معنوية، يختلف كل جزء عن الآخر في حياته وقيمه ورموزه.
ويضيف حمزة أن المعضلة تجلت في العدمية السياسية من خلال تأييد مشاريع الدول وتوجهاتها ضمن معادلة صفرية تلغي الرأي الآخر، فكان جليًا انتشار ظاهرة التخوين والتشفي بين السوريين، وهو ما ظهر بوضوح خلال التدخل التركي الأخير في سوريا وانزياح قسم كبير من السوريين للتبرير لهذا الطرف أو ذاك توجهاته وأفعاله.
ويعتبر حمزة أنه بقدر ما يعكس ذلك من أزمة على مستوى النخب، بقدر ما يبين مآلات الثورة السورية التي غاب عنها الجانب الوطني مقابل تفاهمات آنية لا مكان للسوريين فيها.
هل عاش السوريون حرية التعبير أساسًا؟
يرى محمد بقاعي أننا كسوريين لم نعش حالة من حرية التعبير، لا كقيمة ولا كتطبيق عملي كما هو ممارس في الدول المتقدمة، وحتى مع بداية الثورة السورية وفتح المجال أمام ممارسة نوع من هذه الحرية ضمن المجتمعات الثائرة، كانت تتم نقاشات عامة يقيدها الهدف الجامع آنذاك، ولم تكن توجد اختلافات فعلية بل كانت مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
أما اليوم فيسود الاختلاف بين السوريين سواء الموجودون منهم بالمناطق التي يسيطر عليها النظام أو المعارضة أو في دول عربية أو أوروبية، تبعًا لمحددات نظرتهم للأمور والظروف التي يعيشونها، إذ يكون منظور كل منهم مبنيًا على قواعد ومحددات صلبة تختلف من منطقة إلى أخرى، ومع اختلاف محددات كل طرف عن الآخر يكون من السهل تخوينه، فنحن لم نتعود على فكرة التعامل مع الاختلاف.
وفي ظل الصراع الحالي الذي نعيشه منذ ثماني سنوات، زادت الراديكالية بشكل كبير بين جميع الأحزاب والتيارات السياسية، سواء منها العلمانية أو تيارات الإسلام السياسي، وبوجود المتشددين من كلا الطرفين يصبح قبول حرية التعبير أمرًا صعبًا، إذ إنها تزهر مع سواد الطيف الوسطي من قبل جميع التيارات السياسية، وفقًا لمحمد.
ويعتقد محمد أن ما اشتد حاليًا هو الاختلافات بين السوريين بالقضايا.
أما حرية الرأي والتعبير كما نتصورها فنحن لم نمتلكها إلا بحالة المناداة بها، ولكنها لم تتحول لا لممارسة فعلية ولا لحالة قيمية.
مرجعيات مختلفة تسبب “حالة نزق” بين السوريين
ترى سعاد خبية أن حرية الرأي والتعبير تمر بوضع سيئ جدًا ومتراجع عن فترات سابقة عشناها خلال الثورة، وتُرجع ذلك للوضع السياسي والعسكري العام الذي يعيشه السوريون.
وتشير سعاد إلى وجود حالة انقسام كبيرة بين السوريين بمختلف شرائحهم، إذ باتت كل شريحة مرتبطة بجهة معينة تقوم على حمايتها أو دعمها أو توفير شرعية معينة لها، ما جعل هذه المجموعات مرتبطة بتلك الجهات من حيث المصالح، ووجدت نفسها مضطرة للدفاع عنها، وهو ما خلق حالة من التصادم.
وإلى جانب ذلك تسود حالة من الخوف لدى كثيرين من قول آرائهم لأنهم سيحاسبون عليها من قبل جهة معينة مسيطرة، ربما تكون سلطة الأمر الواقع التي ينضوون تحتها، أو سلطة الدولة التي لجؤوا إليها والتي يشعرون بالخوف من أن يتكلموا برأي مخالف لتوجهها السياسي، فكل سلطة متناقضة مع الأخرى وتسود انقسامات كبيرة بالمواقف بينها نتيجة الاختلافات بوجهات النظر حول القضية السورية والفاعلين الأساسيين فيها وحالة النزاع القائم وتحميل المسؤوليات، كل ذلك أدى إلى غياب بيئة صحية سليمة ضامنة لأن يعبر السوريون عن رأيهم بصراحة وأن يتقبلوا الآراء الأخرى، فصار من الممكن أن تتسبب الكلمة بقتل صاحبها، وأن يؤدي الموقف إلى تعرض صاحبه للاغتيال أو الاعتقال.
وتضيف سعاد أننا كنا معتادين في سوريا على مثل هذه الممارسات سابقًا من قبل النظام، ولكن الخطورة اليوم أن محاصرة الرأي والتعبير صارت تحدث من قبل مجموعات عديدة ومختلفة ظاهرة ومستترة، فحتى عندما تُطرح آراء بسيطة على صفحات خاصة تؤدي إلى أن يتعرض صاحبها إلى عملية تنمر وملاحقة وتهديد، ما جعل الرأي غالبًا يحاط بكثير من الحذر في أثناء طرحه.
ومن الملاحظ أيضًا في الفترة الأخيرة، بحسب سعاد، أن صدامات كبيرة تنتج عن اختلاف بوجهات النظر حول أشياء بسيطة مثل فيديو أو فيلم أو كتاب أو مقالة صحفية، وقد يصل الأمر إلى حد تخوين الآخر المختلف بوجهة النظر.
وتعلل ذلك بحالة “النزق” السائدة بين السوريين، والتي لا تعد حالة أصيلة لدى الشخصية السورية، لكن ما خلقها ودعمها هو حالة اليأس والإحباط وعدم الإحساس بالأمان أو التفاؤل تجاه كل ما يحدث، وهو ما جعل الشخص غير قادر على تقبل الآخر لأنه يشعر بأنه صار يهدد وجوده، بحسب تعبيرها.
“وعي معلّب” يتقدم بسبب تعليم أحادي الجانب
يرى ميران أحمد أن غياب حرية الرأي والتعبير لدى السوريين يعود للتعليم الأحادي الجانب المبني على مناهج مؤدلجة، وهو ما سبب انتشار الجهل في مجتمعاتنا، فرغم وجود مستويات مرتفعة من العلم إلا أننا نشهد غيابًا في الوعي واقتصارًا على “الوعي المعلّب”، إذ لا يوجد تطبيق حكيم للمعلومات التي يكتسبها الشخص في حياته، وهو ما يجعله يظن أنه “شغلة عظيمة” وأنه يمتلك “الحقيقة المثلى”، وسبب ذلك عدم الانفتاح على ثقافات دول أخرى.
ويضيف ميران أن السفر إلى دول أخرى، يتيح للشخص الانفتاح على عدة ثقافات، فيظهر لديه أن رأيه ليس هو الوحيد الصحيح، ويدرك أن هناك حوارًا وأرضية للتحاور مع الآخر، ويكتشف أن سوريا هي عبارة عن نقطة في كوكب كامل.
ومن جانب آخر ترجع الاختلافات والصدامات بين السوريين، بحسب ميران، إلى المشاعر التي عاشوها والألم الذي تولّد لديهم نتيجة ما تعرضوا له من فقدان خلال سنوات الحرب، فكل واحد منا خسر الكثير وهو يحاول أن يجد مبررًا لذلك، فيلقي باللوم على الآخر الذي يعتبره شريكًا في الجريمة ولا يريد سماعه محاولًا التنصل من مسؤولياته.
من يغذي الانقسامات بين السوريين؟
يرى وائل موسى أن كل شخص ينحاز بشكل طبيعي إلى وجهة نظره التي يعتبرها صحيحة، ولكن ما يزيد حدة هذا الانحياز هو مقدار الضرر الذي يتعرض له من الطرف الآخر، فالوعي حينها لا يكفي وحده لتقبل الرأي الآخر من جهة تلحق الضرر به.
ويضيف وائل أنه في الحالة السورية تظهر لدى كل مجموعة من الأشخاص تطلعات وآمال مبنية على طريقة فهمهم لما يجري، وتلعب هذه التطلعات دورًا كبيرًا باتخاذ المواقف والانحياز لرأي ما.
ويلفت وائل إلى أن المشكلة الكبرى ترجع إلى تغذية هذه الانقسامات من قبل عدد كبير ممن يعتبرون أنفسهم من فئة المثقفين أو السياسيين، الذين يعملون على شحن الرأي العام عبر نشر معلومات خاطئة عن الخصم، بهدف تحقيق انحياز أكبر لمواقفهم، إذ يعمد البعض على سبيل المثال إلى نشر إحصائيات عرقية أو إثنية غير دقيقة، في ظل عدم توفر إحصائيات حقيقية لدى أي من الجهات، ويكون ذلك بهدف الحصول على انحياز وتأييد أكبر لآرائهم مقابل الرأي الآخر، دون أن يأبهوا لتبعات ما يحدث.
السلاح يتفوق على الحوار
يرى أغيد شيخو أن جيل الشباب أصابه الملل والتعب من محاولات إقناعه بأفكار معينة من قبل بعض الأطراف وتكرار ذلك على مدى سنوات، الأمر الذي جعله يصل إلى حالة رفض تلقائية لكل من يخالفه الرأي كونه بدأ يكوّن رؤية نمطية عن الذين يقابلهم حديثًا بحكم تجاربه السابقة، وهي الحالة التي كنا نلحظها لدى المتقدمين في السن بحكم تجاربهم الطويلة في الحياة، إذ نجد أنه يصعب إقناعهم بأفكار جديدة نعلم مسبقًا أنهم لن يتقبلوها.
وإلى جانب ذلك، يرى أغيد أن الإيمان بقوة السلاح وتفوقه على لغة الحوار لعب دورًا في عدم نضوج ثقافة حرية الرأي والتعبير بين السوريين، كما أن التجمعات المستندة إلى الانتماء، والتي تشكلت تلقائيًا سواء في دول اللجوء مع تفضيل المؤيدين لدول داعمة للنظام السوري، والمعارضين لدول تدعم توجهاتهم، أو في المناطق السورية التي باتت منفصلة ومعزولة عن بعضها، جعل من الصعوبة الاختلاط وتبادل الأفكار ووجهات النظر بين الأطياف المختلفة في التوجه، فأصبح كل واحد منهم لا يعرف عن الآخر سوى ما تفعله الجهة التي يؤيدها، مضيفًا أن “التمسك بربح المعركة أنساهم أن ربح السلام أهم وأعظم”.
حرية التعبير ليست مصانة قانونيًا في سوريا
ميرا حنا
محامية وناشطة نسوية (اسم مستعار فضلت استخدامه لأسباب أمنية)
ترى ميرا حنا أن حرية التعبير مقيّدة بشدة في مجتمعاتنا، حتى بين عموم الناس الذين توقعنا أن جدار الخوف انكسر لديهم، إذ تسود لدى السوريين قناعة بعدم جدوى الكلام أو الحوار، ورفض الآخر بطريقة انفعالية لا تحليلية، ما أدى إلى انتشار الشتائم في أوساط البعض، بينما اختار آخرون التعبير عن أفكارهم بطريقة مواربة، فالروح الانتقامية موجودة أكثر من أي وقت مضى لكنها عميقة ومخبأة، بحسب تعبيرها، ونتيجة لذلك صار التخوين لغة طبيعية لأننا منزوعو السياسة وولاءاتنا متعددة، ولدينا رغبة بالوصول على حساب الآخرين وليس معهم.
وتضيف ميرا أنه إذا نظرنا لأوساط المؤيدين للنظام بالداخل السوري، نجد أن غضبًا كبيرًا يسود لديهم، لعدم حصولهم على تعويضات على كل ما دفعوا ثمنه في الأعوام الماضية، ولشعورهم بأن كل تضحياتهم ضاعت سدى، كما نلاحظ أن سخريتهم من فضائح الفساد المنتشرة لدى المسؤولين هي سخرية مرة مقيدة لا توحي بالثقة بوجود قوة رادعة لدى الحكومة أو قانون يعاقب.
وقد سارت المعارضة على خطى النظام في تغييب حرية الرأي، بحسب ميرا، إذ إن مسؤوليها لا يسمحون لأحد بتحليل تجربتهم أو توجيه اللوم لهم، كما أنهم لا يستمعون لآراء الناس واحتياجاتهم، فضلًا عن الحجم الكبير للفضائح المنتشرة عنهم.
وتشير ميرا إلى أن حرية التعبير غير مصانة بالقوانين السورية ولا محمية بأنظمة واضحة، فهي بحاجة إلى قانون تفصيلي معلن ويؤخذ به، وإلى قانون جمعيات وقانون أحزاب وغيرها.
ثلاثة أسباب اجتماعية تسلبنا حرية التعبير
تشير سماح سالمة إلى أن حرية التعبير عن الرأي هي حق اجتماعي وسياسي وديني، وقد أقره “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في المادة 19 منه، ومع ذلك نرى أن هذا الحق غير مكفول سياسيًا في مجتمعاتنا بدليل العنف الذي تعرضت له الشعوب التي ثارت في كثير من البلدان، كما أنه غير مكفول اجتماعيًا، وتدل على ذلك الكثير من المظاهر الاجتماعية التي تسلب الآخرين حرية التعبير عن آرائهم.
وترجع سماح ذلك إلى التنشئة الاجتماعية، فالأسرة التي لا تربي أبناءها على ممارسة هذا الحق يصعب عليها أن تخرج جيلًا إلى المجتمع يتقبل الآخر بكل أفكاره وآرائه، وهذا ما ينطبق على المؤسسات التعليمية الشريكة في التربية.
وإلى جانب ذلك أسهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بالحد من حرية التعبير، رغم كونها منصات للتعبير عن الرأي، بسبب استغلالها من قبل الأشخاص الإقصائيين، إذ إن هذه الشبكات حدت من الخصوصية الشخصية، وصار كل شيء معروضًا أمام عامة الناس، الذين أصبحوا يستسهلون النقد والتدخل في شؤون الآخرين، بحسب سماح.
أما السبب الثالث برأي سماح، فهو أن انتشار العنف الذي تعرض له السوريون طوال فترة الحرب، هو ما جعل بعضًا منهم يمارسون العنف على آخرين أضعف منهم، ويعمدون إلى سلب آرائهم وهو ما يعد شكلًا من أشكال العنف الرمزي.
وتؤكد سماح أن حرية إبداء الرأي وتقبل الآخر هي ثقافة مجتمعية تخلقها البيئة الأسرية، وتسهم بتنميتها مؤسسات المجتمع التعليمية والإعلامية والسياسية.