ليان الحلبي – عنب بلدي
عقودٌ من كم الأفواه، ومن التعتيم والرقابة المشددة في وسائل الإعلام الرسمية، وغير الرسمية، ورغم تغيب الشباب السوري عن أي من أوجه العمل السياسي والنشاط الإعلامي في «كنف» حكم البعث، حمل شباب الثورة السورية مسؤولية تغطية أحداثها في ظل غياب وسائل عربية ودولية، وأيضًا محلية غير تابعة للنظام؛ حتى باتوا المرجعية الإعلامية الأولى والأساسية لمتابعة تطورات الوضع في سوريا.
وبين دافع نقل أصوات غيبها إعلام الأسد أو شوّهها، وبين دهاليز السياسة ومكائد الحروب، انطلقت عشرات وسائل الإعلام تباعًا (مطبوعة ومرئية ومسموعة)، بدأت بـ «شبكات أنباء» عبر صفحات التواصل الاجتماعي وكوّنت سمعتها ومصداقيتها تراكميًا، فاستمر بعضها ليكون مصدرًا موثوقًا، تستند عليه الوسائل الإعلامية الأخرى، وتحول بعضها الآخر إلى ما بات يعرف بـ «صفحات النسخ واللصق» التي تقتصر على إعادة نشر الأخبار، والشائعات، من هنا وهناك، فيما تحول عدد منها إلى «أبواق» للجهات التي تتبع لها.
في حوار مع عدد من الصحفيين السوريين، بحثت عنب بلدي في واقع الإعلام السوري الناشئ، مستطلعة أراءهم حول ما بات يعرف بـ «الإعلام الثوري».
مهنيًا، أين موقع الإعلام «الثوري»
يرى الكاتب والصحفي «علي سفر» أن الإعلام وطالما سميّ بـ «الثوريّ» فهذا يدل على أنه مرتبط بالثورة ومساعد لها، أمّا بشكل عام فالحرفية «هي المعيار الرئيسي لنجاحه وتأثيره»؛ فإذا اعتبرنا أن مهمته الأساسية هي نقل الأخبار وتقديم اللوحة كما هي على الأرض فالتزامه بذلك لا يسمح له بممارسة فعل من شأنه زيادة الشرخ بين الأطراف، «الشروخ تصنعها السياسة والحرب، ويصنعها غياب الأجندة الوطنية عن الفاعلين في المشهد السوري».
وعن مهنية هذا الإعلام في هذه المرحلة، يؤكد سفر أنه شهد تطورًا في أداء العاملين فيه، وفي أدواتهم، إذ لم يكن سلاحهم سوى «كاميرا الجوال» عند انطلاقة الثورة، واليوم «تقام تدريبات، وهناك صحف ومجلات وإذاعات وكذلك مساحات حرة للعمل في بعض المناطق» الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.
توصيف هذا الإعلام بـ «الثوري»، أو أن يصدّر إعلام نفسه على أنه «ثوري» يفقده الكثير من موضوعيته، يعلق «عبسي سميسم»، رئيس تحرير جريدة صدى الشام ومدير الملف السوري في «العربي الجديد»، مميزًا بين «إعلام ثوري» و»إعلام منحاز للثورة» ضمن سياسته التحريرية.
وبالعودة بالحديث إلى بدايات الثورة، توافق سميسم مع سفر على دور الإعلام «الثوري» وتأثيره آنذاك، كونه المصدر الوحيد في ظل عجز الوسائل الإعلامية والعالمية عن الوصول إلى الحدث، ولكن «بعد وصولها خفّ تأثيره كثيرًا واقتصرت تغطيته على تكرار الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام الأخرى أو تحليلها”، يعقب عبسي.
وردًا على من يقول إن الصفحات «الثورية» والنشطاء الإعلاميين لا يزالون المصدر الرئيسي لمختلف الوسائل الإعلامية في الحصول على الأخبار، يرد سميسم «صحيح، تعتمد وسائل الإعلام العربية والغربية على الناشطين» ولكنه يعزو ذلك إلى أن تلك الوسائل «تستغل» الناشطين لتغطية الأخبار، وبذلك تخلي مسؤوليتها الأخلاقية عن أمنهم، إضافة إلى الجانب المادي، فتعويضات المراسل الحربي «في أحداث كهذه» تبلغ أضعاف ما يتقاضاه الناشطون. ويضيف بأنه يجب ألا ننسى أن لبعض الوسائل الإعلامية «أجندات ورسائل» خاصة تسعى لإيصالها «وبالتالي يكون التعامل مع الناشطين وتطويعهم في خدمة تلك الأجندات أسهل من تطويع الإعلامي المحترف».
تضخيم الوقائع وتأجيج الخلافات
يعيش الإعلام الثوري اليوم حالة من «الفوضى» ما بين «جهل المتابع وتمرد الناشط» حسب تعبير «يحيى مايو» مسؤول المكتب الصحفي في اتحاد إعلاميي حلب السابق، فكمٌ لا بأس به من الناشطين برزوا في منطقة معينة وباتوا أسماء ومصادر موثوقة، ما دفعهم «للتمرد» وعمل منصات ومنابر خاصة بهم و «توسيع نشاطهم ليشمل مناطق أوسع من قدراتهم». ويضيف مايو إن كثيرًا من أخبار معارك وولادة كيانات ثورية جديدة وغرف عمليات أخذت حيزًا أكبر من حجمها، وذلك عندما روجت لها وسائل إعلامية عديدة «دون جدوى، إذ لم نرَ لها أي عمل على الأرض، ولا تزال التجارة بأسمائها جارية».
بينما يعتبر الصحفي «عقيل حسن» أن الإعلام «الثوري» قد «حُمّل أكثر بكثير مما يحتمل»، ويقع عليه اللوم في تأجيج بعض الخلافات داخل صفوف الثورة والمشاكل بين أطرافها، حتى إن أصابع الاتهام تُوَّجه إليه بإشعال المعارك بين الفصائل المعارضة نفسها، مبينًا أن «معظم الأطراف استخدمته كذريعة لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أهدافها المقررة مسبقًا»، بينما «الحقيقة» حسب قوله، «عندما تشن جهة ما حربًا على جهة أخرى فإنها لا تنتظر رأي الإعلام ولا حتى تقرأه أو تسمعه». ويرى حسن أن موقف الإعلام هو على عكس ما يتهم به، «سعي إعلام الثورة دومًا إصلاحيّ توفيقيّ»، يسعى لتقريب وجهات النظر، والتخفيف من حدة التصريحات والتصرفات، ولكن «دون فائدة».
أما الغريب في الأمر بالنسبة لعقيل هو إلقاء اللوم على الناشطين الإعلاميين وعلى وسائل الإعلام في كل مرة تفشل فيها إحدى المعارك «بذريعة أن هناك من نشر أو بث خبرًا أو صورةً أو غير ذلك من الاتهامات المضحكة»، ويردف «هل ينتظر النظام حقًا تصريح ناشط أو صفحة فيسبوك ليعلم بوجود معركة للثوار، أو يطلع على مدى تقدمهم أو تراجعهم عند جبهة ما؟».
الصدق والواقعية من أولويات العمل الصحفي
يوضح علي سفر أن «الصدق والواقعية من أولويات العمل الصحفي»، ويؤكد التزام الكثير من الوسائل الإعلامية بالموضوعية، وبنقل الصورة «بصدق» كما كانت منذ بداية الثورة، «لكنها تقع في الكثير من الأحيان في مطبّ تغليب الانتماء الثوري على المهنية الإعلامية التي تعني الحيادية في نقل الخبر». ويعقب «هذه المشاكل طبيعية في زمن الثورة، ولكنها لن تكون كذلك حينما تدخل هذه الوسائل الإعلامية زمن البناء بعد إسقاط النظام».
وكذلك لا ينكر عقيل حسن «الأخطاء والهفوات» التي وقع فيها إعلام الثورة، ولكنه يطرح تساؤلًا عن تبعات هذه الهفوات «أأضرّت بالفعل؟ ألم تكن كل هذه الهفوات والسلبيات لا شيء مقابل أخطاء الفصائل والمؤسسات الثورية الأخرى التي لم تكن في النهاية تريد من الإعلام سوى الترويج لها والسكوت عن أخطائها وانحرافاتها؟».
أما يحيى مايو فيتطرق إلى الصفحات «غير الموثوقة»، والتي لا تُعرف الجهات التابعة لها، وهدفها الحشد من خلال «النصوص العاطفية» وكيل المديح برموز الثورة، مشيرًا إلى أن هذه الصفحات هي مصدر للأكاذيب والشائعات و «يجب إلغاء متابعتها على الفور، لأن ظهور اسمك بين قائمة متابعيها يعزز موثوقيتها عند أصدقائك».
الإعلام ضحية الشائعات والحرب النفسية
تضخيم الأحداث والترويج للشائعات ولانتصارات وهمية هو خطأ بذاته، ونتائجه عكسية غالبًا «إلا إذا استخدم لضرورة قصوى في حالات معينة وفي خدمة هدف واضح»، يبيّن عقيل، مشيرًا إلى أن تواتر الشائعات «بطريقة مريبة» يدفع للتساؤل عن الجهة أو الجهات التي تقف وراءها، «فالأمر يؤثر، وقد أثر بالفعل، على مصداقية إعلام الثورة»، مشددًا على أن «المؤسسات الإعلامية الثورية المحترمة لم تكن إلا في حالات نادرة جزءًا من ذلك».
وما يدخل في إطار «الحرب النفسية» هو أمر يجب أن يكون مدروسًا من قبل مؤسسات إعلامية خبيرة في هذا المجال، بحسب عبسي سميسم، «وعادة تتبع لجهة سياسية معينة»، وتطبيق ذلك ممكن على نطاق ضيق جدًا، أما الاجتهاد في الأمر من قبل أفراد «يسيء للإعلام بالمطلق».
«نُشرت بيانات مزورة من قبل أعداء الثورة، أو نتيجة خلافات ضمن كيان ما، دون التأكد من مصدرها، أو دون التحقق من الختم على البيان» يقول مايو، «الكثير منها كان إثر خلافات داخلية وساعد الإعلام على تأجيجها».
وإن قدمت هذه الآراء رؤية مجملة عن واقع الإعلام السوري الناشئ في ظل الثورة السورية، فإنها لا تطلق حكمًا قاطعًا عليه. كما يجدر هنا الإشارة إلى أمرين، أولهما أن هذا الإعلام، وإن دخل عامه الرابع، إلا أنه لا يزال في مرحلة البناء، يطور محتواه ويحسن أداءه مستفيدًا من أخطائه وهفواته؛ وثانيهما أن كل وسيلة إعلامية تتفرد بما يميزها، رؤية ومحتوىً وجمهورًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :