أسامة آغي
قراءة النقاط الواردة في البيان الرسمي الروسي- التركي، بعد اجتماع القمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في مدينة سوتشي الروسية، بتاريخ 22 من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، تكشف عن تقاطعات الضرورة وتبايناتها بالنسبة لأجندتي البلدين في الصراع السوري، الذي لا يزال يتجدد بصور مختلفة.
الانسحاب الأمريكي الجزئي من مناطق في شرق الفرات، لم يكن انسحابًا مجانيًا لمصلحة الأتراك، أو لمصلحة الروس، كما يحاول البعض ترويج مثل هذه الرؤية. هذا الانسحاب كشف عميقًا عن أدوار محددة، يمكن أن تلعبها بعض الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، وتحديدًا الروس والأتراك.
هذا الأمر، يمكن تفسيره في التقاطع الأمريكي الروسي، برفض مناقشة التوغل التركي في الأراضي السورية في مجلس الأمن، والتهديد باستخدام الفيتو، ضد أي بيان، أو قرار، يدين التوغل المذكور.
هذه المواقف المتسارعة أبعدت إيران، وهي طرف منخرط في الصراع السوري، عن أي دور في حل مشاكل منطقة شرق الفرات. وظهر الأمر وكأن ترتيبات الوضع على الحدود السورية التركية، يمكن التفاهم عليه بين روسيا باعتبارها ضامنًا للنظام السوري في أستانا، وبين تركيا باعتبارها ضامنًا للمعارضة السورية المسلحة.
ولكن يبدو أن توقف عملية “نبع السلام” التركية، لا يخرج كثيرًا عن هذه التفاهمات “الأمريكية الروسية التركية”، التي يراد لها أن تقف عند عتبة محددة من الصراع بين تركيا وخصمها اللدود قوات حزبي PYD وPKK، حيث تكون العتبة أن ينتقل الدور الروسي غير الموجود أصلًا في منطقة شرق الفرات إلى لعب دور ترتيب انسحابات “قوات سوريا الديمقراطية” من مناطق الحدود مع تركيا إلى عمق بحدود 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية.
هذا الانسحاب يحقق لتركيا أمرين اثنين هما: الأول ابتعاد مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية” عن الحدود والحاضنات الشعبية العربية والكردية على حد سواء، وهو مطلب تركي قديم، يحقق لها أمنها القومي. وثاني الأمرين السماح لتركيا ببناء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، تسمح بعودة مليوني لاجئ سوري من أهل المحافظات الثلاث في شرقي سوريا.
وهذا الانسحاب الأمريكي يحقق للروس حضورًا رمزيًا في منطقتي عين العرب ومنبج من جهة، وتسيير دوريات مشتركة مع الأتراك على طول الحدود السورية التركية في منطقة شرق الفرات، حيث ستكون السيطرة الإدارية في المناطق خارج المنطقة الآمنة للنظام السوري.
لكن يمكننا القول، إن الاتفاق الروسي التركي، لم يشر صراحة إلى ما سيتلوه من وقائع ستحدث على الأراضي السورية، فمن الواضح أن الخطة الدولية (الأمريكية الروسية التركية) هي خطة تقوم على مبدأ تصفية تدريجية لكل البؤر المسلحة، التي تتعارض مع الحل السياسي في البلاد، وفق القرار الدولي 2254.
ولعل أهم خطوة قريبة في هذا الاتجاه أمريكيًا هي منع تعميق الصراع التركي مع “قوات سوريا الديمقراطية” في هذه المرحلة على الأقل، وذلك للاستفادة من هذه القوات في اجتثاث ومواجهة القوات الإيرانية وميليشياتها في سوريا، بغية اجتثاثها من منطقة وادي الفرات، ومنع تنفيذ ما يسمى بالهلال الشيعي.
إن انفراد الروس والأتراك في اجتماع سوتشي الأخير، وعدم حضور الضامن الثالث إيران، يكشف عن تفاهمات تركية روسية أمريكية بشأن إنهاء الدور الإيراني في سوريا، ويكشف المناورة الأمريكية، التي تبين أن الأمريكيين غير جادين بالانسحاب من سوريا، وأن ما جرى من انسحاب يخدم هدفًا أمريكيًا لاحقًا، هو طرد إيران، والدليل على ذلك هو بناء الأمريكيين قاعدتين جديدتين في شرق الفرات، واحدة بالقرب من مدينة “الصور” الواقعة على نهر الخابور على بعد 50 كيلومترًا من مدينة دير الزور شمالًا، والثانية في منطقة الباغوز الحدودية مع العراق في أقصى شرق دير الزور.
ولهذا يمكن فهم لماذا انسحب الأمريكيون من شرق الفرات في منطقة الحدود الأمريكية التركية، ولماذا لم يتركوا “قوات سوريا الديمقراطية” فريسة للقوات التركية، التي كانت تقوم بعملية “نبع السلام”، إذ إنهم كلفوا الروس بإيجاد حلقة تفاهمات جديدة حول الصراع بين تركيا و”قوات سوريا الديمقراطية”.
إن اللامقروء في الاتفاق الروسي التركي هو ما سيجري لاحقًا على مستوى المعارك المقبلة بشأن تصفية الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وهذا الأمر يتطلب عدم وجود صراع بين حليفي الولايات المتحدة (تركيا وقوات سوريا الديمقراطية)، وهو إجراء قامت به روسيا دون مكاسب مادية على الأرض لمصلحة النظام السوري، فقيادة “قوات سوريا الديمقراطية” حاولت خلط الأوراق بهذا الشأن، من خلال عقد صفقة مع النظام السوري، تسمح له بالدخول بقواته في منطقة شرق الفرات، ما يفتح الاحتمالات باتجاه توسع الحرب.
توسع الحرب، هو أمر لم تسمح الولايات المتحدة بحدوثه، والدليل على ذلك هو إبقاء آبار النفط والغاز تحت الحماية الأمريكية، وكذلك منع استمرار المعارك بين حليفيها التركي والكردي.
وفق هذه الرؤية، تكون مسؤولية تركيا لا تزال قائمة على ضرورة حل مشكلة وجود “هيئة تحرير الشام” في إدلب، وكذلك مسؤولية الروس والأمريكيين في فك الارتباط لاحقًا بين “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب الـ PKK التركي الكردي، وتحول “قوات سوريا الديمقراطية” إلى حزب سياسي في الدولة السورية الجديدة.
هذه الخطوات المتتالية تخدم هدفًا رئيسيًا هو إنهاء كل أشكال الفصائلية المسلحة، أو وجود الميليشيات، أو قوى عسكرية خارج بقايا جيش النظام السوري، والجيش الوطني حليف الدولة التركية، ما يخدم عودة الحياة لاحقًا لدولة سورية واحدة.