«سجينان» في سيارة أجرة
يافا إدريس
كان يومًا من أيام دمشق الحارّة، وقفت وأنا أتصبب عرقًا بانتظار أن أستقَل وسيلة نقل تأخذني إلى منزلي، أشرت بيدي إلى سائق السيارة القادمة باتجاهي وأخبرته بوجهتي؛ ما إن أغلقت الباب حتى فوجئت بعسكري لا يتجاوز الثلاثين يضع يده على مقبض الباب المواجه للسائق ويخبره أنه يريد التوجه إلى مكان بعيد نوعًا ما عن وجهتي. لم ينتظر السائق موافقتي بطبيعة الحال فكلانا لا يستطيع الرفض.
تململت في مقعدي قليلًا وأخبرت السائق أنني سأغير طريقي إلى مكان يتقاطع فيه طريقينا، أنا والعسكري، اختصارًا للوقت والمسافات.
استدار العسكري باتجاهي ورماني بنظرة امتنان لا تخلو من استغراب جعلتني أحدث نفسي بتهكم أن طرقنا أصبحت مختلفة تمامًا، أشبه بخطين متباعدين لا يلتقيان إلا في ساحة القتال أو على طاولة حوار بائسة، انطلقنا في مشوارنا وبدأ هو يحدثنا عن مدى شوقه لأهله الذين لم يراهم منذ عامين، ورغبته بالحديث مع الناس (المدنيين) بعيدًا عن موضوع السياسة والحرب، وعن معاناته في الخدمة على إحدى الجبهات المشتعلة مطلقًا النكت عن الرفاهية التي يتمتع بها عساكر دمشق مقارنة بغيرهم.
أوصلني السائق أولًا وعندما هممت بإعطائه الأجرة، مد العسكري يده وأشار إلي أن أعيد نقودي إلى مكانها، رفضت ورفض السائق بدوره قائلًا بامتعاض: «هيك بتدفع عنك وعنها»، وافق العسكري قائلًا «أنا بدي أعمل خير»، أجبته بحدة «في كتير أبواب للخير وفي ناس محتاجة.. أنا مو محتاجة».
استدار ناحيتي «بس أنا محتاج.. محتاج دعائك.. ادعيلي».
حملقت في وجهه، رأيت التعب محفورًا في قسماته والحزن يتسلل من عينيه.
كرر: ادعِ لي.
مرت لحظة من الصمت تمتمت خلالها في داخلي وشفتاي مطبقتان ثم قلت له «الله ييسر أمرك»؛ وخرجت محملة بحزنه؛ كان صادقًا متعبًا وملوعًا مثلنا تمامًا.
فكرت طويلًا خلال طريق عودتي به وبمن مثله من أبناء هذه البلد، هم مثلنا، سجناء سجن واحد كبير يضمنا جميعًا، الاختلاف بيننا أنهم كانوا عونًا للسجان علينا فأي رحمة أستجدي لهم؟
ضبطت نفسي متلبسة بإنسانية في غير موضعها، أخذت أراقب حجم التشوه والتناقض النفسي والقيمي الذي نعيشه، مدركة أن اضطرابنا الداخلي هذا جزء محكم من حربهم علينا، فكيف لا أتعاطف مع ابن بلدي الذي ينطق لغتي ويستحلفني أن أدعي إلهنا الواحد لأجله؟
تقول لي صديقتي بمرارة إننا نقطن مدينة أشبه بمسرح يتقن سكانها ارتداء الكثير من الأقنعة والتبديل بينها وقت الحاجة، ويتحدثون بإسهاب بأكثر من لسان حسب الحاجة أيضًا وتضيف: علينا أن نرتدي هنا قلبًا من حديد ووجهًا من شمع.
فإن كان الحجاج وصف أهل العراق بأنهم أهل شقاق ونفاق؛ فنحن أهل دمشق -إلا من رحم ربي- أهل جبن ونفاق- ذريعتنا الوحيدة «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :