خليفة خضر
أجتهد لتذكر تفاصيل مقطع فيديو صورته عام 2015، في حي الفردوس شرقي حلب، لمجزرة راح ضحيتها عددًا من الشهداء، إثر استهداف برميل متفجر ألقاه الطيران المروحي التابع للجيش السوري سوقًا شعبيًا، تباع فيه الخضار والقطع القديمة وأثاث المنازل وتجهيزات الأعراس والمساحيق التجميلية والذهب، وكان يعتبر بمثابة مركز تسوق صغير ومخيف، أوجده الظرف الراهن، لكي يستطيع الناس شراء حاجياتهم مرة واحدة في وقت محدد (يقدره الناس تحاشيًا لتعرضهم للقصف، ثم يعودون سريعًا إلى منازلهم في الأحياء المجاورة للسوق)، في مكان حالت البراميل المتفجرة، دون افتتاح المحلات التجارية فيه وهجرة أصحابها.
الفيديو الذي صورته آنذاك، يرصد كيف يتراكض رجال من الدفاع المدني لجمع أشلاء رجل من منزله الكائن في زقاق صغير وضيق، ويُظهر رجال دين يصرخون مستنجدين بالله لمساعدتهم، وأطفالًا يراقبون بعيونهم المذهولة ما يحدث، ويكتشفون أحجام أشكال الهندسة للمنازل المدمرة ويطابقونها على شكل مربعات ودوائر، ورجالًا ليسوا كاملين، فقدوا أطرافهم، وطفلة صغيرة تقودها أمها التي ترفع قليلًا من خمار وجهها، لئلا تتعثر بالحجارة وشظايا البرميل.
رصد الفيديو سيارات مسرعة قادمة تحاول المساعدة وإسعاف الضحايا، ورجالًا مسرعين، يلهثون، ورصاصًا يفرق الناس الذين اجتمعوا لمشاهدة فيلم رعب، ومقاتلين يطلقون الرصاص في السماء لكي ينفض جمع الناس خوفًا من سقوط برميل آخر فوق البرميل السابق، فهذه إحدى طرق الترهيب التي ينتهجها الأسد.
لكن الآن وبعد بحثي عنه في “الهارد ديسك” الخاص بي، لم أجده، ولم أجد الكثير من المقاطع التي صورتها في معبر اليعربية شرق الحسكة، ذي البوابة السوداء الصدئة، ومقاطع عدة لسهرات ليلية حول “اللوكس” نفكك تاريخ حيّنا ونعيد استذكار مشاكل الحي وأبعاده، كل هذه المقاطع لم أعثر عليها، رحلت مع “هارد ديسك” تحطم، وأخرى مع “هارد ديسك” ضاع بين زحمة النزوح المتكرر.
الحديث من البداية، لست صحفيًا أكاديميًا، ليكون لدي علم مسبق بكيفية أرشفة الفيديوهات، وكيفية رفع نسخ أخرى على موقع “درايف” أو “دروبكس”، ولا كان لدي علم مسبق بوضع نسخة من الفيديوهات على عدة نسخ أخرى من “هارد ديسك”، ما سبب لي، ولغيري من المواطنين الصحفيين الذين ولدوا من رحم الثورة السورية، فقد الكثير من مقاطع الفيديو التي تؤرشف سير الأحداث في سوريا منذ عام 2011.
وبالرغم من أن ما تم تصويره لا يمثل شيئًا مقارنة بما جرى في سوريا، ضاع الكثير من الأرشيف المصور المرئي، بين تلف لـ “الهارد”، وضياع الملفات في أثناء سفر أو عملية تهريب عبر الحدود، أو سرقة تعرض لها الكثير من مصوري سوريا.
بعد تلف وضياع فيديوهات صورتها بكاميرتي التي اقتنيتها أو استلمتها من مراكز إعلامية عملت معها، أمرّ بلحظات من موجات اكتئاب متواترة.
بعد موجات الاكتئاب على تلك المقاطع، كمن فقد ولدًا له أو عزيزًا عليه، ولا أبالغ في ذلك، تولدت لدي فكرة التأقلم مع أن تلك المقاطع لن تعود، كما حدث معنا بعد عدة سنوات من الفاجعة والمآسي، حين رسخت في ذهننا أن ثمة أمورًا لن تعود والتفكير فيها من باب الحسرة جريمة بحق أنفسنا، علينا التفكير بها بطريقة جديدة، وهذا ما وجدته بشأن تلك المقاطع التي ضاعت.
فقدانها لا يعني نسيانها وعدم استذكارها في كل مكان ومجلس، إذ يجب علينا استذكارها لئلا تموت الذاكرة، ويتم تزويرها وتحوير أحداثها، وفقًا لمن يريد توظيفها لأهداف سياسية تبعد كل البعد عن هدفها الحقيقي، كما يحدث في الدراما السورية التابعة للنظام السوري، التي تأخذ من مسرح الجريمة والمباني المدمرة مسرحًا لإعادة تمثيل المشهد ولكن بما يخدم النظام السوري ويخدم روايته.
وبما أني لا أستطيع تذكر كل ما صورته وضاع مني، وبسبب تراكم الأحداث التي نعيشها على الجانب الشخصي والسياسي والعسكري، أحاول استثارة ذاكرتي عن طريق صور تم نشرها وأخرى يذكرني بها “فيس بوك” في الذكرى السنوية لنشر الصورة، أو مقاطع فيديو نشرها إعلام النظام لشارع مرت به الكاميرا مرور الكرام، لتستثير الذاكرة لدي وتعيد تلك المقاطع وتحاول تذكر كل التفاصيل التي عشتها في تلك اللحظة داخل كادر الكاميرا، وما صورته خارجها من تفاصيل، كطريقي إلى مكان تصوير الفيديو وصور لأماكن حُفرت في ذاكرتي، لأعيد صياغة تلك الفيديوهات الضائعة كتابةً، مع ذكر كل التفاصيل التي لاحظتها في أثناء توثيق المجزرة، وهذا ما حدث عندما أخبرتكم عن مجزرة حي الفردوس عام 2015 في مطلع هذه التدوينة.
قد لا تستذكر كل شيء، لذلك لا تكن مثلي واعتنِ بأرشيفك المصوّر، لئلا تضطر لانتظار ما يستثير الذاكرة لديك.