من أجل سما

  • 2019/10/20
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

في التاسع من شهر تشرين الأول الحالي انطلق عرض الفيلم السوري “من أجل سما” في معظم صالات السينما في فرنسا، وهو من بطولة وإعداد وعد الخطيب وزوجها حمزة الخطيب، وشارك بالإخراج مع وعد المخرج البريطاني ادوار واتس، وكان هذا العرض مناسبة لتعريف الفرنسيين والعالم بمعاناة السوريين من نظام الأسد والنظام الروسي، الذي لا يزال يشارك مع الإيرانيين بتدمير سوريا وتهجير شعبها.

الفيلم عبارة عن مذكرات في عين الكاميرا، فالدراما فيه واقعية تنوس بين الوثائقية والمحاولة الفنية التي ترتقي بالأحداث من فجاجتها اليومية إلى رفاهية الحلم الذي يؤازره الصبر، بالإضافة إلى شجاعة منقطعة النظير من قبل حاملة الكاميرا التي لا تملّ من التصوير ولا من الحلم.

تعيش وعد بدايات الثورة السورية وتنقل لنا صور طلاب جامعة حلب في عام 2011، وهم يستبشرون بالحرية القادمة التي صارت على بعد مظاهرتين أو أكثر، وتنقل حالة الفرح والاستبشار بالخلاص من نير الاستبداد الأسدي، فتيان وفتيات يستنكرون قمع النظام للمظاهرات ويرسمون على جدران الجامعة شعارات الحرية، وتظهر جامعة حلب كمنطقة حرة للثورة وللحلم بالكرامة، قبل بدء الفصل التالي من فصول النظام المقبلة.

يبدأ الفيلم بمناجاة الأم وعد الخطيب لابنتها الوليدة سما، ولحديثها الشائق والصادق الذي يأخذ الرضيعة على محمل الفهم والاستيعاب، لتنتثر المناجاة عبر الكاميرا إلينا وإلى جمهور المشاهدين للهم السوري عبر العالم، في رسالة توثيقية عميقة المعاني ومزينة بالأمومة وبالحب الذي تصر عليه وعد الخطيب حتى اللقطات الأخيرة للفيلم.

تظهر حلب كمدينة منكوبة تحت القصف والبراميل المتفجرة، آلاف المنازل المصطفة بانتظام والمدمرة بشكل جزئي أو بشكل كامل تطل علينا من عين الكاميرا الدؤوبة على الرصد، وعلى نقل ما يجري من مآسٍ على أبناء حلب في الأحياء الشرقية، الذين تجمعوا فيها رافضين سلطة الاستبداد الأسدي.

لكن الطائرات تلطخ بالموت ذاكرة الكاميرا وذاكرة الناس في كل يوم وفي كل لحظة، والأطفال يحاولون العيش والاستمرار في التعلم، رغم القصف الذي يحيط بهم، ورغم الحصار الذي ينتهك آدميتهم وحقوقهم كبشر منذورين كضحايا لانتصارات الروس والأسد.

يتنقل حمزة ورفقاؤه من مشفى إلى آخر، فتدمير المستشفيات هو أهم أنجاز لروسيا البوتينية، والأمم المتحدة التي تعطي إحداثيات المشافي للروس، وقد اعترفت الأمم المتحدة بهذا الخطأ الذي جعل الروس يدمرون المشافي في حلب سابقًا، وحاليًا في إدلب، فالروس يجربون كل أنواع الممارسات العسكرية.

لقد كانت تصريحات لافروف في زيارته إلى دمشق في بداية الثورة علامة بارزة في التدمير الممنهج لسوريا، ولم ينسَ الروس تجريب الممارسات الفرنسية في الجزائر، وهي فرش البلاد بالسجادات النارية، التي تؤثثها الطائرات الروسية بالصواريخ وبالغازات، لتسريع انتصار النظام والمحتلين المستعجلين على التهام سوريا.

في الأحياء الفقيرة تبدو مباني حلب في الفيلم متراصة وشوارعها ضيقة ومبانيها عالية، بلا أي فراغات تفصل البناية عن الأخرى، وقد زاد ضيق الشوارع بسقوط الردم فيها وجعلها أكثر ذعرًا وأكثر تراصًا بشكل يثير الانتباه، وكأنما هذا التراص يعبر عن ذعر تاريخي من سلطة الحكام ومن المجهول ومن الأوبئة ومن توقع الهجمات البربرية.

وقد فاقم هذا الرعب تدفق جثث المعتقلين في نهر قويق من سجون أحد فروع المخابرات، في حادثة مشهورة عام 2013، حيث رصدت الكاميرا كيف طافت ذات صباح نحو مئة جثة لمعتقلين تم تعذيبهم وتشويه أجسادهم، في رسالة إلى الأهالي من أجل العودة إلى حب الأسد والهتاف له ولمحتليه الجدد.

ليست عين الكاميرا هي الوحيدة في الجرأة، بل عيون وعد الخطيب وإصرارها على حب حمزة والتضحية من أجل هذا الحب، فهي الإعلامية التي تحب طبيبًا ميدانيًا، وهذا أقصى التحدي لنظام المخابرات الذي تقوم هيمنته على كم الأفواه، وعلى ربط الناس به عبر احتكار الخدمات والتحكم بها لتيسير هيمنته على المجتمع.

مشاهد المشفى الميداني والدماء التي تلون الشاشة تتدفق عبر الفيلم في ضخ توثيقي لجرائم النظام، فالأطفال يموتون بيسر، والدماء تتدفق على البلاط، والأمهات يحملن أطفالهن الموتى رافضات التصديق أن فلذة الكبد حمودي قد مات، وتصيح أم على ابنها الميت “ببوس شحاطك.. بس فيق!!”.

المرأة هي بطلة الفيلم والكاميرا فيه منحازة إلى المرأة، وتُظهر معاناة النساء وتدبيرهن لأمور الحياة وقت الحصار، وإصرارهن على استمرار الحياة بنشر المرح، والاستهزاء من فرض الأغطية التي يصر عليها المسلحون الإسلامويون، ويبدو الرجال أقل فعالية من الأمهات المشغولات بمكافحة اليأس والجوع، والملتاعات بمشاهد الموت المتكررة التي يجعلها حزن المرأة والتياعها بعيدة عن الاعتياد، فكل مرة تظهر امرأة جديدة بحزنها الفريد وغير المتكرر رغم تشابه مشاهد الموت.

حتى حمزة، الطبيب الميداني، يبدو متواريًا ومشغولًا بعمله وببحار الدماء التي تلف وقته واهتمامه، ويتجلى ذلك في الفيلم بالمشهد الذي يبين إصراره القوي وهو يرجع من تركيا ليشغل مشفى ميدانيًا جديدًا، ولم يختر السلامة له ولعائلته، من أجل أن يشارك بمأساة الناس وتخفيف المعاناة عنهم، وقد بدت الصغيرة (سما) حائرة وهي تدخل السيارة مع أبيها وأمها الراجعين إلى بلاد الموت والدمار.

مشاهد الحصار والمفاوضات التي تلته بعد خنق المدنيين إلى حد الاستسلام (2016) رصدتها الكاميرا غير آبهة بالمخاطر ولا بالمصير القادم على بعد مشهدين من الفراق، وقد كان الشغف الذي تمتلكه وعد قادرًا على زحزحة بيادر الحزن واليأس، فهي تنشد الحب، وتعشق الورد مثل حبيبها، وتحب مدينة حلب وتصطحب منها ابنة جديدة في أحشائها، لتقول للعالم إن حلب لا تموت ولا تفنى رغم قصف الطائرات وانتصارات النظام على الخراب.

الصالة التي شاهدنا فيها الفيلم أشبه بباص “هوب هوب” وعدد مقاعدها ثمانية وأربعين مقعدًا، بعدد مقاعد الباص، وكنا خمسة عشر راكبًا لا أكثر، ولكن ثقل الحزن جعلنا نغوص في ظلام الصالة إلى حد التلاشي، وقد كانت أصوات البكاء المكتوم تهز الصالة في نهاية الفيلم، وكانت النسوة الفرنسيات يعبّرن عن حزنهن بغضب، وكن يتعاطفن بألم مع ضحايا هذه الحرب الغاشمة ضد السوريين.

في نفس الوقت كان الجمهور يتزاحم أمام الصالات الواسعة التي يعرض فيها فيلم “جوكر” الأمريكي الذي صار حديث العالم، بينما المأساة الإنسانية في حلب غاصت بعيدًا في صالة العرض الصغيرة والمجهولة.

هذا الفيلم (من أجل سما)، الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي 2019، يفتح درب الفن والإبداع من أجل تجسيد مسيرة السوريين الشاقة ومعاناتهم، وهو علامة فنية وإنسانية عميقة في درب الحرية التي يموت السوريون اليوم من أجلها بلا حساب.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي