مسيحيو سوريا ومؤتمرهم العربي

  • 2019/10/20
  • 12:00 ص

أسامة آغي

منذ البدء يمكننا القول، إنّ الصراع السوري في جوهره العميق ليس صراعًا بين “أكثرية وأقليات” بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هو صراع سياسي بين الشعب السوري بكل مكوناته “الدينية والإثنية والطائفية” وبين نظام حكم استبدادي، هذا الصراع أراد له النظام السوري أن يأخذ صيغة “أكثرية مسلمة سُنيّة، أقليات دينية وإثنية وطائفية”، مستخدمًا أذرعه “الجماعات الإرهابية” في نقل عتبة الصراع بينه وبين الشعب بمكوناته إلى مرحلة الصراع فيما بينها.

النظام السوري لم ينجح إلى النهاية في هذا المسعى، ربما خلق مخاوف لدى المكونات الدينية وغيرها، لكنه فشل في ترسيخ هذه الحالة، وسبب فشله يكمن في إدراك المكونات السورية جميعها بأهدافه، وقناعتها بأن الثورة السورية تقف خلفها عوامل سياسية تتعلق بالحريات والكرامة، وعوامل اقتصادية أساسها نهبه، ونهب فئة من الموالين له لمقدرات البلاد الاقتصادية، وأن الإجراءات السياسية التي يقوم بها النظام تشكّل حالة عرقلة لتطور مفهوم الوطنية السورية.

وفق هذه الرؤية، ينعقد المؤتمر المسيحي العربي في باريس في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ويحضره ممثلون عن مسيحيي سوريا، هذا المؤتمر تقف خلف انعقاده مخاوف المسيحيين وقلقهم الوجودي، هذه المخاوف نتجت عن تداعيات الصراع الجاري في سوريا، الذي لم يبق في حيّزه الداخلي، بل أصبح صراعًا تزيد أواره قوى إقليمية ودولية، اجتمعت في المربع السوري من مقدمات مختلفة، ومن أجندات متباينة.

ولكن، هل يمكن وطنيًّا قبول انعقاد مؤتمر مسيحي عربي، يناقش قضايا المسيحيين في مناطق الصراع العربية، وكأن قضاياهم في حالة انفكاك عن قضايا الصراع التي تخوضها الشعوب العربية؟

قد يقول قائل من حق أي مكوّن اجتماعي، ديني، أو إثني، أو طائفي، عقد مؤتمر منعزل بهذه الفئة أو تلك لمعالجة ما لحق بها من ضرر أو ضيم، أو يُتوقع أن يلحق بها حيف وظلم سياسي أو ديني.

ووفق ذات الرؤية، يحق للمكونات الأخرى أن تعقد مؤتمراتها، وتخرج بنتائج تخصها لوحدها، ضمن منظورها وموقعها الوطني كما تراه هي. فمثلًا يحق لعرب سوريا السُنّة أن يعقدوا مؤتمرًا سنيًّا، يحدد مصالح الطائفة السُنيّة السورية، لا سيما أن أصواتًا ذات نهج طائفي تروّج لمثل هذه الفكرة، باعتبارها الطائفة الأكثر تضررًا نتيجة الصراع بين الشعب السوري وبين النظام الاستبدادي في البلاد. وعلى نفس المنوال، يحق للعلويين والدروز والإسماعيليين والكرد والآشوريين عقد مؤتمرات مشابهة، يحدّدون من خلالها حقوقهم وأهدافهم الخاصة بطوائفهم أو إثنياتهم.

لذلك يحقّ القول إنه يمكن عقد مثل هذه المؤتمرات لمناقشة قضايا دينية صرفة، وليس لمناقشة قضايا وطنية، يجب أن تناقش حول طاولة حوار وطني، ولهذا يبدو المؤتمر وكأنه حق ينام على رؤى سياسية، لكن هذه الرؤى لا تدفع مكونات الشعب السوري إلى معالجة قضاياها عبر حوار وطني شامل، ولا تخدم وحدتها الوطنية، بقدر دفعها إلى وضع تخوم بين هذه المكونات الوطنية.

إنّ العنف الذي تعرّض له السوريون من النظام الاستبدادي، أو من المنظمات الإرهابية، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” المسمى اختصارًا “داعش”، أو من مثيلات “داعش”، هو فعليًا عنف له أفق واحد واضح المعالم، وهو منع السوريين من بلورة حالة وطنية جامعة، تواجه الاستبداد والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأنّ هذا العنف كان واحدًا، وإن تعددت أذرعه وألوان راياته.

لهذا يحق لنا القول، إنّ الدولة السورية بصيغة حكمها الاستبدادي، لم تكن دولة وطنية وفق “مفهوم الوطنية”، فمن شروط الوطنية المساواة بين الأفراد في المجتمع في الحقوق والواجبات، وفي هذه الدولة الوطنية لا تكون هناك مسميات دينية أو طائفية أو إثنية، بل إن جميع أفراد المجتمع هم سوريون فحسب، تجمعهم إرادة عيش ضمن مساحة الوطن الجغرافية، وتظللهم حقوق وواجبات ينص عليها دستور وطني يضعونه بأنفسهم.

إن مسؤولية النظام السوري في استخدام العنف الإبادي ضدّ الحركة الشعبية السلمية، لا ينبغي أن تدفع بنخب المكونات السورية إلى العمل من أجل عقد مؤتمرات ذات محتوى أقل من وطني، إلا إذا كانت هذه النخب تعتقد أن مثل هذه المؤتمرات ستنتج عنها مخرجات تسمح بإيجاد تقاطعات فيما بينها تؤدي إلى عتبة الوطنية. هذه الرؤية السياسية هي رؤية غير علمية وغير وطنية، وعدم علميتها ينحصر في أن التطور الاجتماعي والسياسي للمكونات الوطنية يحصل عند عتبة تطور اقتصادي واضح، يحتاج بالضرورة إلى قوانين سياسية تدمج الجميع في سياقه التطوري.

إذًا سيكون التطور واحدًا لدى كل المكونات، وهو ما يُضعف انتماءها ما قبل الوطني، ويصهره في بوتقة الوطنية، المعبر عنها بدستور وطني ينص على حقوق وواجبات واحدة للجميع.

وعلى هذه السوية من التطور يتراجع دور الديني والطائفي والإثني، لمصلحة الوطنية الواحدة، وهذه الوطنية لن تكون سمة للأكثرية الدينية أو الطائفية أو الإثنية، بل هي محصلة تطور سياسي واقتصادي واجتماعي، يتقدّم بأنساقه المشكّلة له على الحالة ما قبل الوطنية.

لذلك لا يمكن فهم وضع المسيحيين العرب وكأنه وضع خاص، فالمكون المسيحي في سوريا أو في البلدان العربية الأخرى هو جزء من المكونات الوطنية، وبالتالي يمكن مناقشة وضعه ضمن الوحدة الاجتماعية وليس في إطار ديني خاص بهذا المكون.

هذه الرؤية تدفع إلى القول بضرورة عقد مؤتمر وطني شامل وليس مؤتمرات دينية أو إثنية أو طائفية، مؤتمر يضع أساسيات رؤيته، ويحدد فيها مبادئ الوطنية، ويرفض بشكل قاطع اعتبار المجتمع مجموع مكونات طائفية ودينية وإثنية، فالوطنية انتماء فكري وثقافي وحضاري، تظللها قوانين، تحفظ لجميع أفراد المجتمع حقوقهم وتلزمهم بواجباتهم.

لذلك يمكن وفق هذه الرؤية قبول انعقاد مؤتمر المسيحيين العرب في باريس على أنه مؤتمر لقراءة الواقع معرفيًا دون اعتباره تمثيلًا سياسيًا لمكون وطني هو المكون المسيحي.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي