نبيل محمد
لا واقع ولا رمز ولا شعرية سينمائية ولا سوريالية، ولا حتى خليط من كل هذا، قالب غير محدد يحاول فيه فيلم “مطر حمص” للمخرج السوري جود سعيد، قص حكاية حب في الحرب، محملًا إياها كل ما يمكنه تحميله من دعاية سياسية، ملتزمة برواية النظام السوري حول ما جرى في حمص بشكل عام، وما يجري في سوريا، مستخدمًا الأدوات ذاتها، من التعايش الديني في البلاد التي ينتهكها الإرهاب، إلى الرسالة الإنسانية التي يبثها جيشه في تحرير المدن من طغاة القاعدة، بل وباللغة ذاتها التي تضيع بين شعرية بشار الجعفري في جلسات مجلس الأمن، ونكات وليد المعلم البليدة في مؤتمراته الصحفية، وجنون أبواق النظام الإعلامية التي تملأ الشاشات. يجمع الفيلم شتات المواقف هذه في صورة سينمائية، أول ما تخلو منه هو الهوية المستقرة، والموهبة.
في الفيلم الذي الذي ما زال حتى يومنا هذا يجوب المهرجانات، بعد حيازته عدة جوائز خلال العامين الماضيين، يمكن للعسكري على الحاجز، وللطفل الذي يعيش الحصار، وللأب في الكنيسة، وللفتاة المحاصرة، أن يكونوا فلاسفة قادرين على تفسير معنى الوطن والحياة والإنسان في كل مشهد من مشاهد الفيلم، تجربتهم في الحرب جعلت منهم جميعًا عشاقًا مجانين، شجعانًا لا يهابون الموت، زاهدين في الدنيا، مخلصين للذاكرة، مقابل ثلة من الإرهابيين الأغبياء الذين يقنصون كل شيء، ويتحدثون اللغة العربية الفصحى المليئة بالأخطاء النحوية، ويستندون إلى نصوص قرآنية في كل ما يمارسونه من إرهاب. كل هذا الخليط تبدّى في قصة يارا ويوسف وطفلين صغيرين وأب، يعيشون محاصرين في منطقة مرصودة من قبل قناصة فصيل إسلامي معارض، قريبة من مناظير حاجز تابع لجيش النظام. تنشأ علاقة الحب بين الشابين في سعيهما لحماية الطفلين، وتدبر شؤون الطعام والكساء وشحن الموبايل، مقيمين بين الأبنية المدمرة، يخرجان منها كلما أراد المخرج بث الرسائل الشعرية، لنجدهما تارة في سيارة مدمرة، وأخرى في مدينة الملاهي، يعجنان بحديثهما الماضي بالحاضر بالمستقبل، ولكل منهما قصة تشبه قصة الآخر، معناها العام أنهما فقدا كل من يحبان، وبقي لكل منهما من أسرته طفل يجب أن يحميه، ويحبان هذا الوطن المعطاء الذي أعطاهما كل شيء.
جثث تظهر بين الحين والآخر، كفٌّ تخرج من التراب، أجساد معلقة في الهواء، دماء تهطل مع المطر، رمزيات مستهلكة لم تستطع أي منها أن تسير في اتساق يفضي إلى معنى محدد، فكلها محكومة بالرسالة الدعائية، ومقيدة بشعارات البعث، لا يمكنها الخروج عن هذه المبادئ لتحكي أي شيء ذي معنى عميق.
تفشل الصورة فنيًا في أداء رسالة الفيلم، مشاهد القنص والقصف والتدمير تفتقد إلى فنية التصميم والإخراج بشكل فاقع، الفقر في الإنتاج والحرفية والموهبة في صناعة السينما يبلغ أشده في كل مشهد لمعركة أو حصار أو سجن، في كل حضور لمقاتل بأي هيئة كان، موسيقى غير ذات هوية محددة، وممثلون إما أن المطلوب منهم هو أن يعيشوا شخصية العاشق للحياة، والعاشق للموت، والفيلسوف المجنون، والشاعر الحكيم، فضاع كل منهم في تركيبة شخصيات لم يتقن أيًا منها، أو هم بالفعل مبتدئون لدرجة عدم القدرة على فهم الشخصيات بالفعل (إن كانت تلك الشخصيات أصلًا قابلة للفهم).
تبقى الصورة الأهم التي قدمها الفيلم، والتي أتاحتها له إمكانية تجوال الكاميرا كما شاءت بين الأحياء المدمرة في حمص، هي صورة تلك الشوارع المنكوبة، والأبنية المدمرة من الأعلى، من الأعلى تحديدًا، أي من طائرات النظام الذي يدافع عنه الفيلم في كل تفاصيله، وقائع التدمير هي الحقيقة الوحيدة التي قدمها الفيلم، معزولة عن كل السياقات التي حاول إقحامها فاشلًا فيها، دع الممثلين والقصة والحركة والموسيقى والنص منعزلين عن المكان، وشاهد المكان فقط، ستجد حمص المدمرة بالطائرات. حقيقة لا يمكن للفيلم أبدًا تزييفها، مهما حاول مخرجه ومنتجه والجهات التي شرّعت لكاميراته الدوران في حمص. هي مدينة دمرتها الطائرات الحربية ولا يمكن لأي صانع فن أن يغير من مسرح الجريمة، فليحرك ألعابه فوق هذا المسرح كيفما أراد، لا شيء يغيّب هذه الحقيقة.