د. أكرم خولاني
كلنا قد يطلب المشورة أو المساعدة في اتخاذ القرار في بعض الأمور، ولكن عندما يصبح الشخص غير قادر على اتخاذ قرار بسيط أو حتى الاعتماد على نفسه، ويتكل على الآخرين من أجل النصيحة والدعم في كل شيء، فهذا أمر غير طبيعي، وغالبًا ما يكون لدى مثل هؤلاء اضطراب في الشخصية يسمى “الشخصية الاعتمادية”.
ما هي الشخصية الاعتمادية
هي حالة نفسية تتميز بفقد الشخص استقلاليته الذاتية، واعتماده نفسيًا على الآخرين في كل شيء، وإذا افتقد لوجود الناس حوله أو دعمهم، فإنه يُصاب بحالة من القلق الشديد أو نوبات الهلع التي تصاحبها أعراض جسدية، مثل سرعة ضربات القلب وضيق التنفس والدوار والإغماء.
قد يواجه الأصحاء (غير المصابين بهذه الحالة) مشاعر عدم الثقة بالنفس أحيانًا، لكن الاختلاف هنا أن الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الاعتمادية يحتاجون للتشجيع من الآخرين للانخراط في الحياة بشكل عام، ويصيب هذا الاضطراب نحو 0.6% من الناس، ويُشخّص بصورة أكبر في الإناث منه في الذكور، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن سبب ذلك يرجع إلى حد كبير إلى الاختلافات السلوكية في المقابلات والإبلاغ الذاتي أو وصف الذات، وليس بسبب اختلاف معدل الانتشار بين الجنسين.
ويتميز صاحب الشخصية الاعتمادية بأن طريقته في التعامل مع الآخرين هي الظهور بمظهر المسكنة لاستدرار عطفهم، ويميل إلى تضخيم ما يعاني منه، والتقليل مما لديه من مكاسب، حتى يزداد ما يمنحونه له.
كما أنه يهرب من الحرية لأنها تعني مسؤوليته عن أفعاله الخاصة، فالمجتمع النموذجي له هو المجتمع الديكتاتوري أو البيروقراطي، ففي المجتمع الأول يتولى المسؤولية رأس المجتمع، ويكون على الجميع التنفيذ فحسب، وفي المجتمع الثاني يكون لكل شيء مساره المحدد دون حاجة إلى اجتهاد الموظف أو تحمله المسؤولية.
وهو يخشى الوحدة والعزلة، لأنه يستمد قيمته وطاقته للحياة من اتصاله بالآخرين، لذلك فإنه يهرب إلى صحبة الآخرين، أي آخرين.
وفي حياته الخاصة تكون قراراته في يد غيره، مثل تخصصه الدراسي، وزواجه، وعمله، وعادة تكون نتاج أوامر من يتولون أمره، وليست نتاج رغباته وأفكاره الخاصة.
كما أنه عادة ما يكون مهتمًا بالموضة، بالملابس والسيارات والأطعمة وطريقة الحياة وطريقة الحديث.. لأنه ليس لديه امتلاء من داخل نفسه فيميل إلى مسايرة خطوط الموضة لكي يُشعِر الآخرين بأنه شخص نموذجي، ولعل ذلك يفسر اهتمام المراهقين بتتبع الموضة، لأن المراهق لم يصل بعد إلى شخصيته المستقلة، وإن لم يكن يعاني من اضطراب الشخصية الاعتمادية إلا أن لديه بعض مظاهرها بطبيعة مرحلة النمو.
وهو يميل إلى أن يكون تابعًا لآراء الآخرين، فهو في المدرسة يدور حول مدرّس قوي، وفي العمل تابع للمدير أو الشخص الأقوى فيه، وفي شؤون الحياة العامة تابع لما تمليه عليه وسائل الإعلام المسيطرة، ويبلغ ذلك مداه الأقصى في تبعيته للآخرين في مذاهبه السياسية والاقتصادية والدينية .
وصاحب هذه الشخصية يصف نفسه بالغباء دومًا، ويشعر بالسلبية والتقليل من قدراته والشك الذاتي والتشاؤم وافتقاره التام للثقة بالنفس، ما يجعله يعاني من صعوبة البدء في مشاريع جديدة.
ولهذا فإن أصحاب الشخصية الاعتمادية هم أكثر عرضة للإصابة بمرض الاكتئاب واضطرابات القلق والتعرض لحالة نفسية قد تؤدي إلى الاكتئاب والعزلة بعيدًا عن الجميع.
ما أسباب اضطراب الشخصية الاعتمادية؟
لم يعرف حتى الآن السبب المباشر للإصابة باضطراب الشخصية الاعتمادية، ولكن يمكن إرجاعه إلى عوامل وراثية وبيئية:
- الوراثة: هناك أدلة قوية بأن هذا الاضطراب ينتشر في العائلات والأسر.
- التنشئة الاجتماعية: كالحماية الزائدة من الأبوين، أو تسلط أحد الوالدين ورسمه حدودًا لسلوكيات أبنائه وخياراتهم في الحياة، أو إهمال العائلة للطفل، ما يدفعه لعدم فعل أي شيء سوى ما يمليه عليه الآخرون ليكسب حبهم واهتمامهم، كل ذلك يسهم بجعل الطفل ذا شخصية اعتمادية.
كيف تُشخّص الشخصية الاعتمادية
يحدث هذا الاضطراب في الغالب في مرحلة مبكرة من العمر، وحتى منتصف البلوغ، وعند وجود أعراضه يُشخّص إذا وجد ما لا يقل عن ثلاثة من التالي:
- السماح للآخرين أو حتي تشجيعهم ليتخذوا له أهم القرارات في حياته.
- تبعية احتياجات الشخص المصاب لاحتياجات الآخرين الذين يعتمد عليهم، وامتثال لا مبرر له تجاه رغباتهم.
- عدم الرغبة في خلق أو صياغة مطالب ولو حتى معقولة تجاه الأشخاص الذين يعتمد عليهم.
- الشعور بانعدام الراحة أو العجز عندما يكون وحيدًا، بسبب المخاوف المبالغ فيها من عدم قدرته على رعاية نفسه.
- الانشغال الدائم بمخاوف من أن يتم التخلي عنه من قبل شخص قريب منه، ومن أن يتم تركه لرعاية نفسه.
- محدودية القدرة على اتخاذ القرارات اليومية دون كمية زائدة من النصائح والطمأنينة من الآخرين.
كيف يتم علاج الشخصية الاعتمادية
كما هو الحال مع العديد من اضطرابات الشخصية، فأصحاب اضطراب الشخصية الاعتمادية لا يحصلون على علاج للاضطراب في حد ذاته، وإنما يلجؤون للعلاج في حالة تفاقم الأمر وتأثيره على حياتهم اليومية وعدم قدرتهم على التأقلم مرة أخرى خاصة مع قابليتهم للاكتئاب بشكل كبير، ويكون العلاج نفسيًا بشكل أساسي، أما الأدوية فتستخدم بشكل محدود فقط.
العلاج النفسي: يهدف لجعل الشخص التابع أكثر نشاطًا واعتمادًا على نفسه في القيام بالأمور والتعلم من العلاقات الناجحة التي يراها أمامه، ويفضّل هنا استخدام العلاج القصير المدى لأن اعتماد طريقة المدى الطويل من شأنه أن يجعل الشخص معتمدًا على العلاج بشكل أساسي.
العلاج الدوائي: يمكن أن تستخدم الأدوية لعلاج القلق والاكتئاب المرافقين للشخصية الاعتمادية، كما تجب مراقبة المريض جيدًا حتى لا يتحول العلاج بالأدوية إلى إدمان لديه.
كيف يجب التعامل مع أصحاب الشخصية الاعتمادية؟
غالبًا ما يدخل إليك الاعتمادي من قِبَل عاطفتك ومبادئك الأخلاقية، فيحاول تحريك آفة “الشعور بالذنب في داخلك” لكي يصل إلى ما يريد، ويجعلك بين خيارين: أن تحقق له ما يريد فتعزز اعتماديته، أو تتركه ليستقل فيتهمك بالتخلي عنه.
لذلك يجب أن تكون واضحًا في حدود ما ستقدمه له منذ البداية، فهو كثير الطلب، ولا يقف عند حد، ولا بد أن تكون حدود المساعدة واضحة له منذ البداية، وأن لا تسمح له أن يستغل مساعدتك له في جانب ما ليعممها على جوانب حياته المختلفة. ولكن إذا كان الاعتمادي قريبك أو صديقك ووجدت نفسك غير قادر على التخلي عنه فحاول أن تهيئ له الفرص المناسبة للاستقلال، وذلك بأن تكسبه الخبرات والمهارات اللازمة للنجاح، بدلًا من أن تصنع أنت له نجاحه.