أمريكا– تركيا: ثقة غائبة وشكوك مستمرّة
أسامة آغي
لا يمكن وصف العلاقات الأمريكية التركية في السنوات الأخيرة بأنها علاقات طبيعية بين حليفين عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فالتباعد بين سياستي البلدين وصل إلى حدود التأزم، بسبب التعارض بينهما حول مسائل العلاقات الثنائية، إضافة إلى التعارض بمسائل إقليمية ودولية على صعد مختلفة. ويمكن القول إن الولايات المتحدة عارضت عام 1974 غزو تركيا للجزء الشمالي من جزيرة قبرص، ولعلّ هذا الخلاف شكّل بداية لخلافات لاحقة بين البلدين. فالأتراك امتعضوا من العقوبات الدولية على العراق، وزاد امتعاضهم من منح شمال العراق الذي يسكنه الكرد العراقيون حكمًا ذاتيًا، إذ تم ذلك في ظل حظر طيران فوق هذه المنطقة.
ولكنّ العلاقات الأمريكية التركية ازدادت تدهورًا بسبب الموقف من الصراع في سوريا، إذ إن الأمريكيين اختاروا حزب PYD وميليشياته حليفًا لهم في حربهم ضدّ “داعش”، وهو الأمر الذي دفع الأتراك للمجاهرة برفضهم هذا التحالف، واعتبروا أنه يشكّل تهديدًا لأمنهم القومي. خشية الأتراك من هذا التحالف أتت من قناعتهم بأنه يسهّل التواصل بين مناطق وجود الكرد على شطري الحدود السورية التركية، وأن هذا التواصل سيتحوّل في مرحلة أخرى إلى تهديد استقرار الدولة التركية، من خلال مشروع “الإدارة الذاتية” في منطقة شرق الفرات الذي يتبناه ويعمل عليه حزب PYD في مناطق الشريط الحدودي. فهذا المشروع يؤسس كما يعتقد الأتراك لنواة دولة كردية، يطمح أكراد المنطقة بقيامها فوق الأجزاء التي يقطنونها في كل من إيران والعراق وتركيا والشريط الحدودي السوري- التركي.
ويأتي ملف الداعية الديني التركي فتح الله غولن سببًا إضافيًا للخلاف بين واشنطن وأنقرة، فغولن الذي يقيم على الأراضي الأمريكية تتهمه أنقرة بأنه هو من يقف خلف محاولة انقلاب تموز 2016، وأن الأمريكيين يحمونه، وبالتالي فموقفهم الحقيقي هو ضدّ حكم حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه الرئيس رجب طيّب أردوغان.
هذه الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة التركية هي خلافات طفت على السطح، ولكنها تخفي الأسباب الجوهرية الحقيقية لتناقض سياستي البلدين، وأساس هذا التناقض يكمن في انتصار الأمريكيين المتمثّل بسيادة القطب الواحد عالميًا بعد انهيار المنظومة السوفيتية، فالأمريكيون يخطّطون عالميًا لبقاء هيمنتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهذا يعني في المحصلة ضبط نمو الاقتصادات الدولية، بما يخدم الهيمنة الأمريكية.
هذه الرؤية والسياسة الأمريكية تنسحب على الحالة التركية، فالأمريكيون يراقبون بحذر النمو الاقتصادي التركي، وتحديدًا في قطاع الصناعات الدفاعية، وما يرتّبه هذا النمو على الطموحات السياسية غير المعلنة لدى حكومة العدالة والتنمية التي يقودها الرئيس رجب طيّب أردوغان، الذي تتهمه الولايات المتحدة الأمريكية بخنق الحريات وزيادة قبضته على الحكم في تركيا، بعد تحوله إلى نظام حكم رئاسي بصلاحيات واسعة للرئاسة.
ولكن يمكن القول إن عائدات هذا القطاع تزداد باستمرار، ما يسمح بتطور هذه الصناعات، التي تشكّل عائداتها رافدًا مهمًا للاقتصاد التركي.
ويعتقد الأمريكيون أنّ سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم، تمضي بصورة ما إلى إعادة إحياء ما يسمّى “مشروع الخلافة العثماني” الذي سقط مع هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى. هذا المشروع هو مشروع سياسي اقتصادي ثقافي، يروّج لعودة بناء دولة الخلافة الإسلامية بصورة جديدة، وهو أمر يخشاه الأمريكيون والغرب الأوروبي، ويعتبرونه تهديدًا لمنظومة الديمقراطيات الغربية. ولكنّ الحقيقة تكمن في رغبة الأمريكيين في بقاء النمو الاقتصادي والعسكري التركي ضمن حدود السيطرة، التي تحقّق مفهومهم للهيمنة الدولية، ولهذا فهم يتّبعون سياسات مختلفة لتحقيق هذا الهدف، ومن أهم هذه السياسات هي تقويض الليرة التركية، وفرض ضرائب على الواردات التركية إلى الولايات المتحدة، وغيرها من سياسات الحرب الاقتصادية ضد تركيا.
هذه الحالة تفترض معرفة اتجاهات العلاقات الأمريكية التركية في المدى المنظور والاستراتيجي، ففي المدى المنظور توجد قواسم مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدولة التركية، وهي قواسم ذات طبيعة سياسية عامة، كالموقف من الإرهاب، والموقف من منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومن خشيتهما معًا من ازدياد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى قضايا أخرى.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه السياسات التي تتقاطع بها الدولتان الولايات المتحدة وتركيا تكفي لتأسيس ثقة عميقة بينهما كحليفين في حلف شمال الأطلسي؟ أم أن التناقضات القائمة بينهما مثل موقفهما المتناقض من حزب PYD، وكذلك نظرتهما لحلّ الصراع السوري، كفيلة بتعميق فقد الثقة وازدياد الشكوك حيال سياستيهما نحو ذات القضايا؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض بيان مستوى التعاون والاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، فالأتراك يريدون إغلاق ملف خطر قوات PYD عليهم من خلال اجتثاثه عسكريًا، بينما لا توافق الولايات المتحدة على هذا الإجراء ولكن تسعى إلى حلول الحدّ الأدنى المقبول تركيًا.
والأمريكيون ينظرون إلى تركيا التي اشترت منظومة الدفاع الجوي الروسية الصنع S400 نظرة ريب وقلق، ويعتقدون أن تركيا تمضي نحو نقل تحالفاتها مع الغرب باتجاه الشرق، وهذا يعني زيادة في تذبذب ميزان القوى العالمي لغير مصلحة الأمريكيين، ويعني من جهة أخرى، رفض الأتراك لرهن سياساتهم الدفاعية عن أمنهم القومي لإرادة الدفاع التي يقررها الأمريكيون والدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، لا سيما أنهم تركوا تركيا دون غطاء دفاع جوي حين سحبوا منظومة الدفاع باتريوت.
هذا التوجه التركي يحمل في طياته بذور شقاق حقيقية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تهدّد بالمعنى الاستراتيجي العقيدة العسكرية للجيش التركي ذات الطابع الغربي من جهة، وتضع الأتراك في مواجهة غير متكافئة مع الأمريكيين على صعيد حرب اقتصادية بينهما، لن تجري في المحصلة لمصلحة الدولة التركية، وهذا ما يدفع للقول: هل يستطيع البلدان إيجاد صيغة تعاون جديدة ومختلفة تقوم على مبدأ إدارة (الشراكة والصراع) بينهما، أي التركيز على تعزيز نقاط الاتفاق أكثر من تعميق نقاط الصراع.
فإذا لجأ الأمريكيون إلى مزيد من تعميق الصراع مع الأتراك فهذا يعني هدم جدار الثقة المتبقي بينهما، وهو أمر خطير سيدفع الأتراك إلى البحث عن بدائل لعلاقاتهم الاستراتيجية. ولعلّ شراءهم لمنظومة S400 والتشارك مع الروس في تطويرها وتصنيعها، إضافة إلى مشروع الغاز الروسي المار بتركيا المسمّى السيل التركي، يعزّز هذا الاتجاه.
يبقى أن نقول، هل سيبحث الأمريكيون والأتراك عن نقاط تشارك أعمق وأوسع أم أن الأمور ماضية إلى صراعات كبرى بينهما في المدى غير القريب؟ الأيام المقبلة تحمل الجواب الأكيد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :