كلمات أم سورية..
أحقاً نُهجَّر؟!
رحم الله جدتي، كانت تروي لنا حكايات عن النكبة، عن تهجير الفلسطينين، عن دخولهم إلى سوريا ودول أخرى.
كنت ألمح يدها تتسلل إلى جيبها لتتناول منديلها وتجفف دموعها المتناثرة على خديها، في محاولة يائسة منها ألا نراها، ولكنها لم تستطع أن تخفي الغصة التي كانت ترافق صوتها، وكنت أسمع تضرعاتها للإله ألا يشردنا ويبعدنا عن أوطاننا، فكان أكثر ما يتردد على لسانها «اللهم آمنا في أوطاننا واستر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلها على الإيمان».
لم أكن أعي كثيرًا ما كانت تردد، ولكن لم أكن أتمالك نفسي دون أن أبكي معها، وأقول آمين.. آمين.. آمين.. يارب..
ثم دارت عجلة الحياة، واستلت آلة الموت روح جدتي (تغمدها الله برحمته… وأسكنها فسيح جنانه)، فلم يشأ الله لها أن ترى معي تهجير اللبنانين ثم العراقيين، ودخولهم إلى بلادنا، عندها فقط أدركت سر دموع جدتي، ولسان حالي يقول: «اللهم آمنا في أوطاننا واستر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلها على الإيمان».
سلام الله عليك يا جدتي، اختارك الرفيق الأعلى لجواره، فأراح روحك الطاهرة من رؤية مشهد يكاد يذهب بأبصارنا لهوله. فها هو الطاغية اليوم يخرج كل أضغانه، وما خفي عنا من أحقاده، ليفرغها بنا وليجبر إخوتنا على ترك بلادهم، وليهجرهم إلى الجوار.
لم أجد مشهدًا أشد قسوة من هذا المشهد…
هذه المرة نحن الذين نُهجّر!!!
لم أستطع أن ألملم دموعي، أو حتى أمنعها من الانهيار، أسرعت الخطى قبل أن تجف دواة حبري حزنًا، فأمسكت قلمي وحاولت أن أخط ما يجول في خلدي، ربما إذ فعلت ذلك خففت وطأة المشهد على عيني.
هذه المرة نحن الذين نهجر!!!
ألهذه الدرجة اشتد غيظ الطاغية، واشتعلت نيران حقده، فلم يعد يستطع أن يرانا وإياه على أرض واحدة؟
لم أستطع أن أعتب على أمي الحنون سوريا، إذ ضاقت أرضها بكل ما رحبت على سكانها، فلفظتهم خارجًا، ليولوا ناجين بأجسادهم من لهب نيران الطاغية، تاركين نفوسهم تدمر في أرضهم، وعقولهم تمرغ، وذكرياتهم كذلك مع دماء إخوانهم.
لم أستطع أن أوجه إليها أيما كلمة، فقد كنت أدرك أن سجاني قد كبل يديها ومنعها أن تحتضن أبناءها، ثم فتح عينيها لتراهم وهم يخرجون فيزيد عذابها، ويتعالى صوت أناتها.
ثم ليفرغ جرعات إضافية من حقده عليها وعليهم، فيساومها على عودتهم، بل ويجبرها أن تتوسل إليهم ليعودوا، فيتلقفهم جميعًا، ويسلمها إياهم جثثًا لا حراك لها.
أفرأيت عذابًا أشد وطأة على القلوب من هذا؟ أن تُبعد عن ذاكرتك، عن مسقط رأسك، عن حضن دافئ كان يضمك بذراعيه، عن ترابٍ ابتل من دموعك أسىً على رؤية المهجرين قبلك؟
كان حلمي الوحيد هو الشهادة، ولكن الآن أصبحت أركض واضطررت أن أهجر حفاظًا على حياة أبنائي.
فأعنا اللهم على تحمل هذا المشهد، وانصرنا على من ظلمنا، واجعل كيدهم في نحورهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :