أسامة آغي
تخيّل الروس أنّ انخراطهم المباشر في الصراع السوري سيحسم أمور هذا الصراع خلال أشهر قليلة، لمصلحة حليفهم “النظام السوري”. هذا الانخراط لم يأتِ كحالة إسعافية لحليفهم فحسب، بل جاء تعبيرًا عن “رؤيتهم السياسية”، التي أرادت توظيف أوضاع سوريا الهشّة في تلك الآونة عام 2015، من أجل حزمة صراعات دولية بينهم وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
الروس دافعوا عن النظام السوري منذ تفجّر الثورة السورية عام 2011، والدفاع عنه في مواقع عديدة (سياسية، دبلوماسية، اقتصادية، عسكرية) أتى على أرضيّة خشيتهم الحقيقية من انتقال شرارة هذه الثورة إليهم، وهذا يكشف عن أنهم أتوا إلى الحكم من دهاليز وسراديب الدولة العميقة المنحدرة من نظام الحكم السوفيتي السابق، ويكشف عن أنّ غاية تدخلهم تقوم على تفريغ الطاقة الثورية للشعب السوري من قوتها الدافعة، وشرذمة هذه الطاقة عبر مسارات متعددة، يختارون لكل حالة منها مسارًا خاصًا، معتمدين على أعلى كثافة نارية مدمّرة، ضدّ الفصائل العسكرية الثورية، وضدّ الحاضنة الشعبية لهذه الفصائل.
إذًا الروس الذين دخلوا الصراع السوري من بوابته الهشّة، كانوا يريدون استخدام هذه الورقة لأجل صراعاتهم الأخرى مع الغرب، وتحديدًا الصراع في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ومسألة الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا، ومسألة الطاقة. ولهذا عملوا بصورة مكثّفة من أجل تحقيق هذه الرؤية، إضافة إلى مزاحمة الأمريكيين في المياه الدافئة، وهذا ما جعل من منطقة الشرق الأوسط محور اهتمامهم الاستراتيجي على الصُعدِ السياسية والأمنية والاقتصادية.
الروس الذين شكّلوا هذه الرؤية كأساس لاستراتيجيتهم في المنطقة أرادوا أن يبعثوا برسائل متعددة، وفي اتجاهات مختلفة، على أنهم لا يزالون قوّة عظمى، ويجب التعامل دوليًا معهم، وفق هذه الحقيقة كما يرونها.
لكنّ القيادة الروسية التي انخرطت في الصراع السوري، لم تكن حساباتها السياسية والعسكرية صحيحة، والدليل على ذلك تصريحات مسؤوليها، الذين قالوا في الربع الأخير من عام 2015، وهو زمن تدخلهم العسكري المباشر في سوريا، إنّ حسم أمور الصراع المسلّح في سوريا لن يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر.
لكن الواقع يقول إن مرور أربع سنوات على التدخل الروسي المباشر في سوريا، لم تحقّق نتائجها المرجوة، كما خطّطت لها القيادة الروسية، وهذا الأمر يدفع إلى طرح أسئلة ملموسة حول التدخل الروسي ومآلاته النهائية، فهذا التدخل وجد نفسه بمواجهة رفض غربي له، بدأ بالتنامي شيئًا فشيئًا، فسياسة الأرض المحروقة، وتحديدًا في الشمال السوري، ستدفع بموجات لجوء كبرى نحو القارة الأوروبية، وهذا سيربك النسيج الاجتماعي والسياسي الأوروبي.
كذلك فالروس الذين أرادوا الالتفاف على مضامين القرارات الدولية، التي وقعوا عليها (بيان جنيف1+ القرار 2118+ القرار 2254) عبر اشتقاق ما أسموه “مفاوضات أستانة”، وجدوا أن التناقضات بين أجندات الدول الضامنة لهذه المفاوضات (تركيا، إيران، روسيا) هي تناقضات ليست بسيطة بل هي جوهرية، تهدّد بصورة غير معلنة مصالح وأهداف الروس من التدخل في سوريا.
وإذا ذهبنا إلى الكشف أكثر فأكثر عن التناقضات المحيطة بالدور الروسي في سوريا، سنُضطر إلى الإشارة إلى وجود تناقض كبير بين إسرائيل وإيران في الساحة السورية، هذا التناقض وصل إلى حدود قيام إسرائيل بمئات الغارات الجويّة على مواقع الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الأجنبية المؤتمرة بأمره. هذه الغارات كشفت عن خلل عميق في علاقة التحالف مع الإيرانيين في الصراع السوري.
هذا الخلل قد يقود لاحقًا إلى صراع مباشر بين إيران وأذرعها في سوريا وبين الوجود العسكري الروسي في هذا البلد. ومن هنا تبدو عوامل الصراع أوسع مما تخيّله الروس، فهل يستطيع الروس الإمساك بأطراف الخيوط المحرّكة لعناصر الصراع في سوريا لمدة كافية لنجاحهم؟
الجواب عن هذا السؤال يكمن في أمور عديدة، منها أنّ التقابل السياسي والاقتصادي هو تقابل هش في الدور الروسي، الذي سيجد نفسه بمواجهة خصوم أقوى منه اقتصاديًا وسياسيًا، وحتى عسكريًا. فمثلًا يبلغ الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية ما قيمته 19.4 تريليون دولار أمريكي سنويًا، وذلك حسب وثائق دولية نُشرت في مطلع عام 2018، في حين بلغ الناتج المحلي الروسي ما قيمته 1.56 تريليون دولار أمريكي في ذات الفترة سنويًا. وهذا يعني أنّ ناتج روسيا المحلي يبلغ تقريبًا 1/12 من قيمة الناتج المحلي الأمريكي، فكيف تستطيع روسيا مواجهة هذه الهوّة الاقتصادية العظيمة بينها وبين الأمريكيين؟ والتي تعني تفوقًا أمريكيًا ساحقًا على الروس اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، بل حتى علميًا.
إذًا كي تستطيع روسيا الاحتفاظ بدور يوازي قدراتها السياسية والاقتصادية في سوريا، ينبغي عليها إعادة النظر بجوهر سياستها حيال هذا البلد، وهذا يتطلّب تعاونًا جدّيًا مع المجموعة الغربية الأوروبية الأمريكية، ويتطلّب الاعتراف بحقّ السوريين في الخلاص من نظام الاستبداد.
إعادة نظر روسيا في سياستها حيال سوريا، يتطلّب الذهاب إلى مقاربة جادة مع فحوى القرار الدولي 2254، الذي يعني التراجع عن سياسة الحسم العسكرية للصراع السوري. فهل يذهب الروس إلى هذه المقاربة التي لا تلبي ما رسمته قيادتهم للصراع عام 2015؟ أم أنهم سيواصلون المناورات واللعب بشروط الصراع، الذي لا ينبئ بأنّ نهاياته ستكون كما يشتهون؟