برومو دم النخيل
نبيل محمد
“اللي بخونك مرة بخونك ألف مرة”، “نحنا ما حملنا سلاح لنقتل أهل بلدنا”، جملتان تمران في برومو فيلم دم النخيل، الذي لم تُتَح مشاهدته سوى لمجموعة من الإعلاميين العاملين في مؤسسات تابعة للنظام السوري أو شبه تابعة له، في افتتاح الفيلم المنتظر من قبل المؤسسة السياسية السورية ليكون فيلمًا عالميًا يحكي قصة الحرب بين النظام و”الإرهاب” في أشهر المدن التاريخية السورية “تدمر”.
الجملتان جزء من الرسالة التعبوية المباشرة التي ورّدها البعث السوري في مئات الشرائط السينمائية والتلفزيونية، والتي تنتج بإشراف مباشر من قبل النظام، وتحت شعاراته الراسخة، والتي لم تستطع كل المجريات السابقة والحالية أن تعدّل فيها، أو تخفف من وطأة طرحها الجامد الجاف الميت، ليعود اليوم وبعد سنوات حرب لم تغيّر شيئًا من عقليته، وعقلية كاميراته ومنصاته الإعلامية، ومؤسسات إنتاجه، ومخرجيه، فيفرد في إعلان فيلم سينمائي سيمثل الانتصار من وجهة نظره، شعارات كفيلة بأن تشي بمضمون الفيلم كاملًا، وسياقه ومقولته.
أُوقف الفيلم لدواع أمنية وفق ما يتبدى من التبعات التي لحقت عرضه، والانتقادات التي وجهت إليه من قبل موالين ومسؤولين، حيث تصل النمطية إلى حدّها الأقصى وفق ما يبدو، فيظهر البطل المخلّص علويًا، والخائن درزيًا، أما البطل فلا ضير في علويته وفق ما يتضح. هو خط أحمر ربما فرضته المؤسسة العسكرية التي يقودها في الجبهات ضباط من الطائفة ذاتها، ويعود قتلاها إلى القرى ذات السكان العلويين. لكن أن يكون الخائن درزيًا فهو ما لا يمكن تقبله من قبل المكون الدرزي وفق ما ارتأى منتقدو الفيلم من داخل مؤسسة النظام، ومن داخل جمهوره المؤيد، وربما سؤال “لماذا لا يكون سنيًا؟” هو الأكثر حضورًا في أذهان رافضي الاستبقاء على الفيلم والمطالبين بإيقافه من داخل المنظومة.
تظهر حالة الفيلم، وحالة رفضه (من الداخل)، صورة واضحة جدًا لمستوى الإنتاج السينمائي، والسوية الفنية للفيلم، كنموذج عن المنتج الفني لمؤسسات النظام السوري ككل. فبمجرد أن يكون دور البطل لمقاتل علوي، يعني أن البطولة في هذه الحرب هي للعلويين، وبمجرد أن يكو دور الخائن من نصيب درزي، فإن الخيانة في هذه الحرب درزية. هكذا ببساطة يمكن فهم مضمون الفيلم وقراءته، كمجموعة من الجمل العامة الجامدة المتعفنة، العابقة بالشعارات الميتة. وها هو الفيلم لم يعرض جماهيريًا، هل يصعب على أحد ممن لم يشاهدوه أن يحكوا قصته بالكامل، وأن يكتبوا مقالات نقدية عنه قبل عرضه. أي محتوى سينمائي متوقع إلى هذه الدرجة يمثله هذا الفيلم.
مقاتلون أشاوس ذوو انتماء للوطن (لا أحد منهم سبق له أن سرق ثلاجة من منزل مدني مهجّر)، مقاتل ضعيف يهرب من ساحة المعركة (معركة يجب أن يدافع فيها عن أهله ووطنه، فلا يقتل فيها مدنيًا، ولا يقطع شجرًا، ولا يهدم حجرًا)، في معركة هي لحفظ تراث هذه الأمة (معركة تدمر، المدينة التي حاربت الرومان بقوة امرأة خلدها التاريخ اسمها زنوبيا). كل ذلك صوّر بكاميرات مؤسسة السينما، المؤسسة العامة المسؤولة عن المنتج السينمائي في البلاد منذ نحو خمسين عامًا، والتي تطرح فيليمن إلى ثلاثة أفلام في السنة الواحدة، فتجيز ما تشاء وتمنع ما تشاء، وتهب قدراتها المالية والمخابراتية لمخرج يعمل عضوًا في مجلس الشعب، ويسعى لمنع زملائه ممن عارضوا النظام من العودة إلى بلادهم، ويهمُّ في إدراج أسمائهم في قوائم المطلوبين بسبب الخيانة العظمى.
كل هذه المقومات تنتج فيلمًا عن كبرى مقولات النظام في ترويج نفسه في المجتمع الدولي “نظام منفتح يقاتل الإرهاب الجهادي”. سيحمل الفيلم بلا شك كل شعارات هذا النظام، وسيفتتح في دار الأسد وتحت شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ثم ستوقفه الرقابة خوفًا من إثارة النعرة الطائفية، وتخوين مكوّن كامل، تهمته أنه عارض إرسال أبنائه إلى الحرب، لقتل مواطنيه.
قد تتجاوز الإجراءات الرسمية في حق الفيلم مسألة قص بعض المشاهد، فتذهب إلى منعه بالكامل، ذلك لن يؤتي أي نتائج مختلفة، ولن يشعر أحد بذلك. الفيلم كله اليوم صورة واقعية لكل مكونات المؤسسة الثقافية والفنية والسياسية السورية، موجود في مخيلة من شاء النقد والكتابة، بل ومن شاء التحليل في حركات الكاميرا، والإكسسوارات، والنص. فيلم واضح بكل تفاصيله قبل عرضه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :