من النادر أن تظهر للعلن الخلافات بين أهل الحكم في سوريا، وربما الاستثناء ما جرى عام 1984 حين أظهر رفعت الأسد، قائد «سرايا الدفاع» وقتئذٍ، رغبته في الحلول مكان أخيه، حافظ الأسد، بعد أن اشتد مرض الأخير وغاب عن الوعي بضعة أيام، فتصدت له قوات من الجيش النظامي وأجهزة الأمن وحاصرت محاولات سيطرته عسكرياً على مفاصل السلطة؛ الأمر الذي وضع البلاد على حافة حرب مدمرة ما كان يمكن تداركها لولا تعافي الرئيس السوري.
أما الجديد فهو ما يثار هذه الأيام عن وجود خلاف كبير بين مؤسسة الرئاسة وبين سندها الاقتصادي؛ رامي مخلوف، وصل إلى درجة مداهمة وتوقيف بعض رؤساء شركاته ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، بما في ذلك ما يشاع عن وضع الأخير تحت الإقامة الجبرية.
من البديهي أن تتباين تفسيرات السوريين لهذه الأخبار وتتفاوت شكوكهم في مدى صحتها، فثمة من يدعو لعدم أخذها بجدية واهتمام، مستنداً إلى أن أطراف الحكم في سوريا، وتحديداً من الدائرة الضيقة، مشهود لهم بتماسكهم الطائفي والعائلي، وسرعتهم في تجاوز خلافاتهم لحماية سلطتهم ومصالحهم المشتركة، خصوصاً في ظل الظروف الانتقالية العصيبة التي تعيشها البلاد اقتصادياً وأمنياً، وأدلتهم على ذلك كثيرة؛ تبدأ بالتسامح مع رفعت الأسد وإرضائه مالياً؛ واللذين قابلهما بإنهاء طموحاته السياسية ومعارضته، ولا تنتهي بما جرى مع عاطف نجيب، ابن خالة الرئيس السوري، الذي لم يتعرض لأي مساءلة أو محاسبة بعد قصة سجنه وتعذيبه أطفال درعا، بل نقل من موقع مسؤولية إلى آخر لم يكن أقل قيمة أو مرتبة.
بينما هناك من يعتقدون أن تلك الخلافات جدية، ومنهم من يعدّها شكلاً من أشكال التنازع على الحصص والمغانم، بعد أن استغل رامي مخلوف ظروف الحرب لتعزيز قدراته المالية والاقتصادية، وتوسيع استثماراته داخل البلاد وخارجها. ومنهم من يجدها محاولة من قبل الرئيس السوري لتخفيف نفوذ بعض الشخصيات التي كَبُر وزنها وبدأت تَظهر موضوعياً على أنها منافس، بما يعيد توزيع مجالات النفوذ بصورة آمنة داخل محيطه، ويلغي أي احتمال لتنامي بديل له في البلاد، والقصد هو محاولة محاصرة النفوذ الشعبي الذي بدأ يحظى به رامي مخلوف في أوساط السوريين، خصوصاً لدى الأقليات الدينية وأبناء الطائفة العلوية، لقاء الخدمات التي يقدمها للمحتاجين والمتضررين في ظل ضعف الدولة وعجزها عن أداء مهامها، وهنا، يلغي أصحاب هذا الرأي من حساباتهم ما يثار عن أن أساس الخلاف هو المسألة المالية، مذكرين الجميع بأن القصر الجمهوري يمتلك من الأموال التي تراكمت في حسابه طيلة عقود، ما يفيض بكثير عن مبلغ مليارين أو ثلاثة مليارات دولار، يقال إن موسكو طلبتها من دمشق وتمنع رامي مخلوف من تلبية قرار الرئيس بتسديدها!
في حين يندفع آخرون إلى اعتبار ما يجري فصلاً جديداً من فصول التنازع بين روسيا وإيران على النفوذ ومفاصل الاقتصاد في سوريا، ولكن المفارقة المؤلمة والمضحكة عند هؤلاء، أن بعضهم يعتقد أن رامي مخلوف وأعوانه هم أقرب إلى طهران من موسكو بدلالة أن المبلغ المالي المفترض تسديده هو للجانب الروسي، وأن خطة الكرملين لإعادة تأهيل الوضع السوري، تتضمن الحد من تنامي التجنيد خارج الجيش النظامي، والذي تقوم به «جمعية البستان» التابعة لرامي مخلوف مقابل رواتب مغرية وتغطية تخلّف منتسبيها عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية. بينما يعتقد البعض الآخر، على العكس، أنه الأقرب إلى روسيا، بدلالة تعدد استثماراته هناك وتكرار لجوء بعض أهله إلى موسكو وقت الأزمات، والأهم لأن طهران هي التي استفادت مما يحدث بإعلانها عن ملكية وبدء تشغيل شبكة لاتصالات الهاتف الجوال، بالتعارض مع الشبكتين اللتين يمتلكهما تاريخياً رامي مخلوف.
وفي المقابل؛ هناك أعداد غير قليلة من السوريين تذهب إلى تفسير الخلاف من زاوية تآمرية، معتقدين أن ما يجري هو أشبه بمسرحية موزعة الأدوار جيداً، وغايتها ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد…
أولاً، الالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية بنقل بعض شركات رامي مخلوف الخاضعة للرقابة الدولية إلى أيادٍ ومؤسسات جديدة لا تطالها العقوبات الاقتصادية، لا سيما أن معظم الأشخاص الذين أشيع أنهم رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية يندرجون ضمن قوائم من فرضت عليهم الدول الغربية مجموعة من العقوبات، وهم رجال أعمال عرفوا خلال الأعوام الماضية بدعمهم غير المحدود للنظام السوري.
ثانياً، توظيف هذه الهجمة لتغطية وتسويغ خطة سلطوية مبيّتة غرضها محاصرة، وربما تصفية، شخصيات أفرزتها فوضى الحرب وصار نفوذها خطراً، خارج القانون وسيطرة الدولة… فأنى لقائد ميليشيا أو زعيم للشبيحة أن يرفض قرار تطويق دوره وتخليص ما جناه في الحرب، حين يرى أن رأس النظام يبادر لمواجهة أهله وأقاربه للحد من نفوذهم وفسادهم؟!
ثالثاً، إحياء النغمة القديمة عن قائد مُنَزّه وشريف وعن أتباع جشعين وفاسدين، في محاولة لتجميل صورة الرئيس ودوره، خصوصاً أن البلاد تقف على عتبة مرحلة سياسية واقتصادية جديدة تحتاج إلى رضا المجتمع الدولي، ولعل ما يضفي على هذا الهدف بعض الجدية، أن زوجة الرئيس السوري هي رئيسة «لجنة مكافحة الفساد وغسل الأموال»، التي طالت رجال أعمال مقربين، من بينهم دريد الأسد، وأيضاً طالت محمد حمشو وأيمن جابر المحسوبين على ماهر الأسد.
رابعاً، امتصاص نقمة وحنق الشارع، وتحديداً أبناء الطائفة العلوية، ليس فقط جراء تردي الوضعين الاقتصادي والمعيشي، وإنما أيضاً بسبب ظواهر بذخ وترف رجالات النظام وأبنائهم. ويمكنكم تقدير مشاعر من قدموا عشرات الألوف من أبنائهم فداء للسلطة، عندما يرون أكبر أولاد رامي مخلوف وهو يستعرض سياراته الفارهة والفيلا الفخمة التي يملكها في دبي!
واستدراكاً؛ من العبث الرهان على خلافات ذات مغزى بين أهل الحكم في سوريا، أو على نتائج مفاجئة أو ذات أهمية نوعية من حال تغيير وجوه وشخصيات في السلطة السورية ومجيء وجوه أخرى، ما دام ثمة استمرار للبنية التكوينية القائمة على القهر والتمييز وعلى تمركز الثروة بيد قلة تعضدهم روابط عصبوية متخلفة وعلاقات الفساد والمحسوبية، وتوحدهم ارتكاباتهم وفظائعهم بحق الشعب السوري المنكوب.