عنب بلدي- ضياء عودة
بعد عامين من انضمامه إلى “هيئة تحرير الشام” قرر المقاتل “أبو مجاهد” (19 عامًا) ترك العمل ضمن صفوفها، لكنه ينتظر حاليًا استلام منحة مالية تقدر بـ 38 ألف ليرة سورية، من المقرر أن تصرف له خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
يقول “أبو مجاهد” (الاسم الذي طلب نشر الحديث به) لعنب بلدي إن قرار ترك القتال مع “تحرير الشام” لم يأتِ من فراغ، بل يرتبط بحادثة القيادي “أبو العبد أشداء”، التي أحدثت هزة ضمن البيت الداخلي لـ “الهيئة”، بعد نشر القيادي تسجيلًا مصورًا عنونه بـ”كي لا تغرق السفينة”، تحدث فيه عن الفساد الإداري والمالي، والأخطاء الكبيرة و”القاتلة” التي ارتكبها القادة الذين يمسكون بالفصيل.
يتركز عمل “أبو مجاهد” في إخلاء الجرحى والمقاتلين من على الجبهات الفاصلة مع قوات النظام السوري في أثناء العمليات العسكرية، ويضيف، “أتندم على كل ثانية كنت فيها مع تحرير الشام (…) عقب إصدار قرار فصل أبو العبد أشداء وإحالته إلى القضاء العسكري قررت ترك العمل ضمن صفوفها بشكل كامل، وأنتظر استلام المنحة المالية حاليًا”.
حالة “أبو مجاهد” لا يمكن حصرها بالمقاتلين فقط، بل تشمل قياديين في “تحرير الشام”، التي خسرت منهم ثلاثة بارزين، منذ مطلع عام 2019، في انعكاس للخلاف الذي يشهده البيت الداخلي لها بين التيارات الجهادية المؤسسة.
ولم يكن انشقاق القادة بناء على قرار اتخذوه من جانبهم فقط، بل على خلفية قرارات أصدرتها قيادة “تحرير الشام”، أبرزها في شباط 2019، حين منعت “لجنة الإشراف والمتابعة العليا” وسائل الإعلام الشخصية والعامة التابعة لـ “تحرير الشام” من عدة أمور أبرزها: إصدار الفتاوى والأحكام قبل اعتماد المجلس الشرعي العام لفتوى معينة.
ومنعت أيضًا نقد الشخصيات القيادية والعلمية سواء ممن هم “داخل الساحة أو خارجها”، إلى جانب منع الارتجال الشخصي في التعليق على أحداث ميدانية أو سياسية داخلية أو خارجية.
تحرك متأخر
الخطوة التي أقدم عليها القيادي البارز “أبو العبد أشداء” جاءت بصورة مفاجئة، وفي الوقت الذي تعيش فيه محافظة إدلب ظروفًا حساسة، على خلفية العمليات العسكرية التي بدأتها قوات النظام السوري وروسيا على المنطقة، وتمكنت خلالها من إحراز تقدم كبير في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي.
ركّز “أبو العبد أشداء”، الذي يشغل منصب القائد العام لكتلة حلب المدينة سابقًا والإداري العام لجيش “عمر بن الخطاب”، على عدة نقاط، كان أبرزها أن “تحرير الشام” فقدت حاضنتها الشعبية بين المدنيين والمقاتلين في صفوفها، على خلفية تحكم قادة معينين بمصيرها وفي الأمور التنظيمية والإدارية.
وقال القيادي البارز، الذي اعتقلته “تحرير الشام”، في 13 من أيلول الحالي، على خلفية التسجيل المصور، إنه على الرغم من الدخل المادي الشهري الكبير للأخيرة، إلا أن مقاتليها لا يتلقون منحًا مادية شهرية، وكثير منهم ترك صفوفها بسبب الفقر الشديد، مضيفًا أن مقاتلي “تحرير الشام” من أفقر المقاتلين في المنطقة، وهناك إداريون تصل رواتبهم إلى أكثر من 250 دولارًا شهريًا.
خسارة الحاضنة الشعبية التي تحدث عنها “أبو العبد أشداء” واقعية ووصلت إلى مراحل متقدمة، وهو ما أكدته “تحرير الشام” بشكل غير مباشر من خلال بيان نشرته عقب حادثة “فيديو الانتقادات”.
تحدثت “تحرير الشام” في البيان عن هدف مشروعها وهو “إرساء مرحلة جديدة وتصحيح الأخطاء السابقة بما يتعلق باستقلالية القرار الثوري على المستويات كافة، المدنية والعسكرية والسياسية، وإقامة كيان مؤسسي ثوري ناضج بديل عن مؤسسات النظام”.
وأكد البيان أن “الهيئة” نجحت في جوانب وأخطأت وأخفقت في جوانب أخرى، وأنها “لا تدعي العصمة من الخطأ أو الوقوع في الزلل”، على حد وصفه.
وشكلت “الهيئة”، بموجب البيان، “لجنة رقابة عليا” قالت إنها تتمتع بصلاحيات واسعة، وتعزز جهود لجنة المتابعة العليا، وتحوي شخصيات معتبرة.
بيان “الهيئة” تزامن مع تعميم نشرته على غرفها الخاصة في “تلغرام”، أعربت فيه عن تخوفها من “ضرب النسيج المجتمعي والتلاحم العسكري”، عبر استراتيجية تقوم بها روسيا.
وقالت إن روسيا والنظام اتبعا استراتيجية من خمس نقاط لزعزعة كامل استقرار المناطق المحررة، وهي المراوغة السياسية في أستانة وسوتشي من أجل كسب الموقف الدولي، ثم تقسيم المناطق وقضمها تباعًا.
والنقطة الثالثة هي اختراق الفصائل تحت دعوى المصالحة ثم إخراجها من المناطق وتسليمها للنظام، وزعزعة صف الفصائل والشعب من خلال التصريحات والمنشورات الإعلامية، وإرسال خلايا أمنية تقوم بعمليات التفجير والاغتيالات لزعزعة الاستقرار، بحسب التعميم.
شرخ بين “الإنقاذ” ومجلس الشورى
بموازاة ما سبق، وبشكل لم يظهر إلى العلن حتى اليوم، تشهد العلاقة بين “حكومة الإنقاذ السورية” التابعة لـ “تحرير الشام” ومجلس الشورى، الذي أُعلن عن تشكيله في شهر آذار الماضي، توترًا وانقسامًا، بعد طرح فكرته ضمن مؤتمر عام (المؤتمر العام للثورة) عُقد في معبر باب الهوى، حضرته فعاليات وبعض شخصيات المنطقة.
وبحسب ما قال مصدر مطلع على الخلاف لعنب بلدي تعود أسباب التوتر والانقسام إلى تحركات من الجانبين لتقاسم النفوذ الإداري في محافظة إدلب، ولا سيما أن “تحرير الشام” لا تزال ترفض نجاح أي مشروع مدني للمحافظة، قد يكون موازيًا لما تعمل عليه.
وأضاف المصدر أن “الحاضنة الشعبية في إدلب بدأت تنسلخ عن تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، مع بقائها لدى مجلس الشورى، الذي يضم فعاليات مدنية من المناطق السورية المختلفة”.
وكان رئيس “المؤتمر العام للثورة”، فاروق كشكش، قال في تصريحات سابقة لعنب بلدي إن مجلس شورى إدلب من شأنه تحديد شكل الحكومة المستقبلية في المحافظة، سواء بتغيير شكلها أو تسميتها والمرتكزات القائمة عليها، وهو الأمر الذي لم يتم حتى الآن، مع استمرار عمل “حكومة الإنقاذ” بالمسمى ذاته والتقسيمات الإدارية والخدمية التي قامت عليها.
استقطاب مقاتلين
الحديث عن فقدان “تحرير الشام” للحاضنة الشعبية في إدلب لم يرتبط فقط بالشق المدني، بل بالعسكري المتمثل بالمقاتلين الذين يعملون في صفوفها، وهو ما أكده القيادي “أبو العبد أشداء”، ويشدد عليه المقاتل “أبو مجاهد” في حديثه لعنب بلدي.
وفي إطار ما سبق كانت القوات الخاصة التابعة لـ “تحرير الشام”، والمعروفة باسم “العصائب الحمراء” قد دعت للانضمام إلى صفوفها.
واشترطت “العصائب” في إعلان لها، 13 من أيلول، أن يكون المتقدم من ضمن صفوف “هيئة تحرير الشام”، ومتفرغًا للعمل سليمًا من الإصابات والأمراض المعيقة.
ويأتي ذلك في ظل اتخاذ “تحرير الشام” عدة خطوات في الأيام الماضية لاستقطاب مقاتلين جدد في محافظة إدلب، في خطوة تنفي ما دار الحديث عنه حول إمكانية حلها بشكل كامل.
ونشر قياديون وشرعيون في الهيئة عبر “تلغرام”، خلال الأيام الماضية، تسجيلات تدعو إلى الانتساب إلى معسكرات الإعداد، كما فتحت “الهيئة” باب الانتساب إلى القوات الخاصة: “جيش أبي بكر الصديق”، “جيش عمر بن الخطاب”، “جيش عثمان بن عفان”، “جيش علي بن أبي طالب”.
وتنفي تلك الخطوات التي اتخذتها “تحرير الشام” ما دار الحديث عنه عن إمكانية حلها بشكل كامل، لإنهاء ذريعة “الإرهاب” التي تعتمد عليها روسيا في حملتها العسكرية.
يتخوف قياديو “الهيئة” اليوم من تفككها، بعدما فشلت في دمج مكوناتها تحت القيادة العسكرية الموحدة، على خلفية التناقضات والانسحابات التي شهدتها في الأشهر الماضية، في أثناء العمليات العسكرية من جانب قوات النظام السوري وروسيا، إلى جانب عمليات الشد والجذب التي اتبعها قائدها “أبو محمد الجولاني”.
ولا تزال “الهيئة” تحتفظ بقوتها المركزية المتمثلة بـ “جيش النصرة”، الذي كان رأس حربة في معاركها الأخيرة ضد فصائل كـ “حركة أحرار الشام”.
وحين فكت “جبهة النصرة” ارتباطها بتنظيم “القاعدة” وغيرت مسماها إلى “فتح الشام”، تفاءل بعض المحللين بهذا التحول، بينما توقع مراقبون أن يكون الحدث “شكليًا” مع استمرار نهج الفصيل وسعيه لتشكيل “إمارة” في المنطقة، بقيادة “أبو محمد الجولاني”.