عنب بلدي – داريا
توفّي المربي والمحقق الإسلامي عبده علي كوشك (الملقب بأبي أحمد) ابن مدينة داريا يوم الأربعاء 29 نيسان عن عمرٍ يقارب 61 عامًا، جراء حادث سير في دولة مصر، التي لجأ إليها في العام 2012.
من عائلة متواضعة، نشأ عبده كوشك على طلب العلم في مدارس ومساجد داريا ودمشق، حتى تخرج من كلية التجارة والاقتصاد، ثم تابع طلبه للعلوم الإسلامية وتولّى إدارة مسجد المصطفى حتى عام 2011، حين توقف عن الخطابة بعد أن كف النظام يده عنها.
عرف عن الشيخ عمله في المجال الدعوي، فقد خرّج معهد المصطفى، الذي يديره، عددًا كبيرًا من حفظة القرآن وطلاب المساجد يرابط كثيرٌ منهم على جبهات داريا اليوم، كما ساهم بتأسيس الجمعية الخيرية وجمعية الشفاء وجمعية الأيتام في المدينة.
بين التأليف والتحقيق
خمسة كتبٍ ألفها أبو أحمد خلال مسيرته أبرزها: صفحات مشرقة من تاريخ أعلام الأمة، المقصد الأعلى في تقريب أحاديث أبي يعلى، ودنيا النساء الصالحات، بينما حقّق بمفرده 20 كتابًا منها: نور اليقين، طبقات الأسماء المفردة للبرديجي، الروضة الريا فيمن دفن بداريا، الوفاء في سيرة الخلفاء.
حاز الشيخ على جائزة دبي العالمية للقرآن الكريم عام 2014، كأفضل محقق في كتابيه الشفا بتعريف حقوق المصطفى والشمائل المحمدية، كما عمل مع الشيخ حسين سليم أسد الذي أصيب في نفس الحادثة، وهو عمّه (والد زوجته)، في تحقيق كتبٍ إسلامية ككتاب موارد الظمآن.
وفي حديثه إلى عنب بلدي، نقل أحمد كوشك، ابن الفقيد، حرص والده على الدقة في مجال التحقيق، «لم يكن يرضى أن يذكر معلومةً إلا بعد التثبت من مصدرها، وكان رحمه الله نقادًا في الوصول إلى المصدر، حتى كان يشدد على نفسه في ضبط كلمةٍ واحدةٍ يرى فيها اختلافًا في الضبط بين أهل العلم».
وقد أمضى الشيخ عمرًا في جمع المجلدات والكتب الإسلامية بمجهودٍ فردي «لم يعمل لصالح مؤسسة معينة وكان يجمع المخطوطات والكتب من حر ماله».
“أبٌ لطلابه”
مدّ الأستاذ يد العون لمن يعلم أنهم بحاجة إلى مساعدة من ماله الخاص على الرغم من قلة دخله، دون سعيٍ وراء الشهرة، وفق ما ينقل المقربون منه. ولم يمنعه كبر سنه أن «يجلس جلسة طالب العلم بين يدي من يرى فيهم مكانة وعلمًا، فكان يحرص على حضور درس الأستاذ محمد شراب رحمه الله كأي طالب مبتدئ تواضعًا منه، ولا يرى لنفسه فضلًا»، يقول ابنه أحمد.
اهتمامه بالجيل الناشئ وطلاب العالم كان له من حياته نصيبٌ كبير وقد شهدت المدينة عدة احتفالات لتخريج الحافظين بتوجيهٍ منه، حريصًا في ذات الوقت على نشر العلم الذي يفهم به القرآن الكريم، ويطبق واقعًا في حياة الناس.
ويعتبر الشيخ أبًا لطلاب مسجده وطلاب العلم في داريا على حدٍ سواء، وفق ما ينقله أبو سامر، أحد طلابه الذي يعمل حاليًا في المشفى الميداني في المدينة.
يعاملهم كأولاده ويشرف على شؤونهم ويتابع أخبارهم، يفرح لنجاحهم ويشجعهم عند فشلهم، يحب أن يجلس معهم ويستمع لكلامهم، كما أفاد ابنه، الذي أضاف “كان يحب أن يُبرز طاقاتهم كإشراكهم في إدارة المعهد حتى أن ابنته الصغرى كانت تشعر بالغيرة منهم لكثرة ما يذكرهم ويثني عليهم ويحدث عنهم في مجلسه حتى خبرت كل واحد منهم بشخصيته وطبعه وقدراته”.
رحلة السنوات الأخيرة
مع مطلع الثورة السورية عام 2011، زار الشيخ رؤساء بعض الأفرع الأمنية كجميل حسن (المخابرات الجوية) وغيره من أجل حلِّ قضايا البلد الشائكة وتجنُّب الاقتحامات وسفك الدماء، ناقلًا إلى الأسد شخصيًا انتهاكات أفرع المخابرات ومضايقاتهم لأهل داريا، لكن النظام رمى الوعود جزافًا.
استمر بالمطالبة من منبره برد الحقوق إلى أصحابها وإيقاف الظلم والبغي، حتى لوحق أمنيًا ودوهم بيته مرتين، كما نقل ابنه، إلى أن صدر كتاب بكفّ يده عن الخطابة من جامع المصطفى.
سافر من داريا “آسفًا حزينًا” مطلع أيلول 2012، إثر مجزرة داريا الكبرى ليقيم بعد ذلك في برج العرب التابعة للإسكندرية في مصر، ولم يقطع صلته بالعلم بعد سفره بل استمر في تحقيق الكتب وتأليفها فحقق جامع العلوم والحكم وهو حاليًا قيد الطباعة، كما لم ينسَ داريا وأهلها فألَّف كتاب «شخصيات شامية دارانية» أنهاه قبل وفاته بيومين.
واستمر في مجالسة علماء مصر فزار الشيخ أبا إسحاق الحويني والشيخ مصطفى العدوي ليتوفى في طريق عودته إلى الإسكندرية إثر حادث أليم، وقد كان كل أمله أن يعود إلى داريا ليكمل بقية حياته هناك ويدفن فيها.
أحبه أهل مدينته وطلابه وصلوا عليه صلاة الغائب وسط الحصار والمعارك في مدينة داريا يوم الجمعة، ليذهب جثمانه وتبقى كتبه ومؤلفاته وذكره الطيب شاهدًا على مسيرته.