نبيل محمد
تصطدم مشاريع التوثيق الموسيقي الفني في سوريا بقلة المراجع بشكل دائم، لتبقى بعض هذه المشاريع معلقة ريثما يتم توثيقها بمرجع معين، أو شخصية فنية مؤثرة، وقادرة على أن تكون مرجعًا في شأن تنحدر أهميته بالتوازي مع انحدار حضور مختلف الفنون والآداب السورية خلف غبار الحرب، بل ومع دفن ما تبقى من الفنون التراثية في مدن سوريا وقراها التي عركتها الآليات الثقيلة، وأنماط الحياة الحربية، وسلطات الأمر الواقع في كثير من الأحيان.
في غفلة عن الحرب، يحاول شباب سوريون تتبع تواريخ فنون سوريّة اشتهرت بها مدنهم، ليقاسوا في هذا التتبع عثرات التوثيق، وقلة مصادره، وفي موليا الرقة يبدو التوثيق مهمة صعبة، وهو الفن الشعري الموسيقي الأكثر حضورًا تاريخيًا في تراث المدينة، التي أفقدتها الحرب نمطها الحياتي والثقافي والفني المعروف، ليصبح النمط المعروف عنها عالميًا نمطًا عنيفًا، كونها استمرت لسنوات عاصمة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي عاث خرابًا فيها، واستكملت هذا الخراب الطائرات الحربية التي جاءت من كل حدب وصوب لدفن الإرهاب في مواقعه، والتي غيبت تفاصيل المدينة تحت قذائفها، كما غيبها التنظيم تحت عمائمه السوداء وساحات الإعدام التي اعتاد تشييدها… ليكون أي مشروع توثيقي فني أو أدبي حاليًا بمثابة محاولة كسر هذه النمطية التي سادت مؤخرًا، وإقناع أي جمهور مهتم بالمنطقة وفنونها، أن لهذه المدينة تاريخًا طويلًا كانت فيه الربابة والعود صاحبة الحضور على جدران منازلها، لا البنادق والقواذف.
من هذه الفرضية انطلق الفنان قيصر أبو رز، ابن الرقة، لتوثيق الموليا، في رسالة ماجستير أنجزها بدرجة جيدة، بعنوان “الموليا الفراتية بين الموسيقى والأدب” في جامعة “إينالكو” للدراسات الشرقية في العاصمة الفرنسية باريس، مستعيدًا فيها تراث الجزيرة السورية في الموليا، وبشكل خاص الرقة، كون للموليا الرقية هوية خاصة عرفت في الرقة، وتميزت وتفردت فيها… لكن ماذا بقي منها اليوم؟ قد لا يكون هذا أحد الأسئلة المطروحة في رسالة الفنان، لكن يبدو أنه قارب الإجابة، في مواجهته لصعوبة الحصول على المراجع، فهذا الفن العريق لم يوثقه الكثيرون، إنما كتب قليلة خرجت من تحت أيدي شعراء وفنانين من المنطقة، حملوا مهمة توثيق هذا الفن، وربما لولا مبادراتهم تلك، ومبادرة أبو رز في رسالته، لدُفن هذا الفن في المدينة، وانتظر رحيل آخر الأصوات التي تردده، ليعلن انقراضه تحت وطأة الدمار والتشرد، وهي نتائج اعتادت الحروب على الخلاص بها، في معرض دورها بتدمير الإنسان وثقافته وفنه.
كثيرة كانت تعليلات الرقيين في جلساتهم بحضرة الفرات، ونادرة هي على شبكة الإنترت، وأشعار الموليا كذلك، كانت على كل لسان من سكان المدينة، بينما يندر حضورها في الكتب، لتبقى جزءًا من ذاكرة أهل المدينة الذين هاجر أغلبيتهم، يستذكرون أبياتًا منها بين حين وآخر في معرض حنينهم لمدينتهم، بينما تسقط أبيات أخرى من الذاكرة مع مرور الأيام، ليتهاوى هذا الفن بعيدًا عن الخلود، ما لم يجد مهتمًا قادرًا على البحث والتوثيق، وحفظ الأدلة والبراهين، وتدوين الجملة الموسيقية والنص الشعري.
ما قام به أبو رز، يأخذ قيمته من قيمة الفن الذي يسعى للحفاظ عليه، ومن قيمة إزالة قشور الحرب عن الثقافة، ليظهر لونها الواضح المتأصل، ويعطي للمدينة التي نشأ فيها هذا الفن صورتها المغايرة للشائع.
وكم من فرق كبير إن خطرت الرقة على بال أحدهم فتذكر “يما التعاليلي يما التعاليلي.. آني بجمر الغضى وانت بتعاليل.. عند مغيب القمر سمرة تعاليلي.. تشوف من يدحمج واني أجرع المية”، وبين من تذكر “سليل الصوارم”. الأولى ترافقها الدفوف والربابات ويندر وجودها على منصات الإنترنت مستودع التوثيق الأهم، والثانية ترافقها البنادق وتملأ الشبكة بأشكالها كافة. ومن هنا يعرف الموثق دوره الصعب في صيانة مدينته من أذية التاريخ.