إبراهيم العلوش
في الثالث من أيلول الحالي سقطت فتاة صغيرة (12 عامًا) من فوق جسر الرئيس بدمشق، وبينما لم يجزم “الطب الشرعي” سبب السقوط، قالت صفحات محلية إن الفتاة انتحرت بسبب الجوع، وأنها كانت قد عرضت نفسها على عابر مقابل سندويشة تأكلها ولم يستجب لها في سنة الجوع هذه، التي ينشر فيها وريث الرئيس الحرمان والدمار!
بعد مئة عام من سفربرلك وسنة الجوع التي حلت في سوريا عام 1915، في أثناء الحرب العالمية الأولى، يحلّ الجوع في سوريا لسنوات متعددة، وبدلًا من الجراد الذي ترافق مع سنة الجوع تلك، تحل في سوريا اليوم جيوش الاحتلال الأجنبي والميليشيات وشبيحة التعفيش، ويموت الناس بأسلحة الجيوش وبسياساتها التي لا تستثني أي شكل من أشكال العنف والإرهاب ضد السوريين، فالمعتقلات تمارس التعذيب، والميليشيات تمارس التعفيش، والحواجز تبحث عن ربطة الخبز، وتبحث عن علبة الدواء كأنها تبحث عن اليورانيوم المخصّب!
كان الجوع ينتشر في الحصارات، مثل حصار الغوطة، وحصار حمص، وحصار حلب، وحصار درعا ودير الزور، وحصار مضايا والزبداني، وحصارات متناثرة في الأمكنة وفي المواقيت التي يحددها النظام وتعتمدها جيوش الاحتلال المرافقة لقواته، أما الآن وبعد ثماني سنوات فإن الجوع صار يشمل السوريين جميعًا بمن فيهم مؤيدو النظام، ولم يعد يستثني فئة أو طبقة اجتماعية، اللهم إلا طبقة تجار الحرب الذين يكسبون المزيد من جراء نشر الجوع والحصار، ويضاعفون ثرواتهم عبر استغلال جحافل الشبيحة، التي تهتف بشعارات غرائزية تنتهي بتعفيش برّاد، أو فرشة إسفنج، أو مطاردة دجاجة نجت من الموت بعد موت أو فرار أصحابها!
أما مسرحية الخلاف بين عائلة الأسد وعائلة مخلوف فهي مبنية من أجل إقناع مجتمع مؤيدي النظام بتقبل الجوع، الذي يتسبب به انهيار سعر صرف الليرة السورية، فالرئيس وعائلته يظهرون كمقاتلين ضد تجار الحرب والفساد، بينما يبدو رامي مخلوف أمام الناس هو سبب انهيار الليرة، وتبدو أسماء الأخرس مثل جان دارك وهي تحارب سطوة آل مخلوف الذين قد يتم استبدال وكلاء ماليين جدد لعائلة الأسد بهم، وتواصل ظهورها البديل عن بشار الأسد عبر تزعمها للجمعيات والتجول في المطاعم، بعد أن شفيت من السرطان المزعوم!
انتصارات النظام مع الاحتلال الروسي والإيراني يتم صرفها اليوم للسوريين جميعًا، بمن فيهم فئة المؤيدين والصامتين، على شكل حصص من الجوع والإفلاس، بعدما كان النظام لا يوزع عليهم إلا جثث القتلى، فقد انتصر النظام وانتصرت قوات الاحتلال في كل أنحاء سوريا، وما على السوريين إلا أن يجوعوا احتفالًا بهذه الانتصارات!
الفتاة التي قذفت بنفسها من فوق جسر الرئيس أعلنت بجثتها اكتمال مراسم النصر، ودشنت مرحلة جديدة هي مرحلة الجوع والتشرد، بعد مراحل الحصار والتعذيب، والتعفيش التي أدارها النظام بجدارة!
قبل مئة عام قال أحد الجياع “ليتني آكل وجبة من العدس وأموت بعدها”، واليوم قالت الفتاة لأحد العابرين أعطني سندويشة فلافل وافعل ما تشاء، ولم يستجب لها إلا جسر الرئيس وإسفلت الطريق الذي يعبر تحته!
فمثلما برع النظام باستجرار قوى الدمار إلى السوريين فهو يدير آفة الجوع والإفلاس من أجل إخضاع السوريين وطحنهم ليبقى كآلة للموت، فكبار قادة النظام وكبار تجاره لن تمسهم آثار الحصار وانهيار سعر صرف الليرة، ولن تُمس ثرواتهم، فهم بارعون في التحايل على القوانين وعلى الأنظمة، ناهيك عن ركونهم للتطمينات الدولية التي تشتري عنفهم وإرهابهم من أجل مخططاتها التي تنفذها ضد الوطن السوري وضد أهله.
ولقد ورث الابن حرفة استثمار الجوع من أبيه، الذي استثمر هذا السلاح بجدارة في عام 1987، حين خفّض سعر صرف الليرة إلى خُمس قيمتها بحجة الحصار، وجعل علبة السمنة حلمًا، وعلبة المحارم رفاهية، وصارت القهوة أغلى من الكافيار، وقد وطّد هذا التجويع إخضاع السوريين بعد مذابح الثمانينيات، واستسلم المجتمع لإرادة المخابرات العسكرية، التي أخفت عشرات الألوف من شباب سوريا، ومن مختلف الاتجاهات الفكرية والحزبية، وجعلت الأسد يتفرغ لاحقًا لتصفية شركائه في المذبحة من قادة الجيش والمخابرات وإركاعهم، بمن فيهم أخوه رفعت الأسد جزار حماة، وقائد سرايا الدفاع سيئة الصيت.
أما اليوم وتحت مظلة هذا الجوع، فقد حصد الاحتلال الروسي الايراني ثروات السوريين مثل الغاز والفوسفات، وأخذ الموانئ وسكك الحديد والكهرباء والاتصالات، واستملك المطارات والقطع العسكرية مقابل قتل السوريين، وهو يستجر أيضًا المواد الغذائية كالحمضيات وحتى الخضار مقابل أثمان الصواريخ التي تقتل الناس، ويجبر النظام على استيراد القمح الروسي بعد انتشار حرق محاصيل القمح على أيدي عملاء النظام وعملاء داعش، وتتلاقى وسائل صناعة الجوع التي تديرها الطائرات الروسية مع الميليشيات الإيرانية، من أجل إجبار السوريين على الإقرار بكل الديون التي كانت ثمنًا لآلة الموت، ولن يسمح الاحتلال الروسي بأي حل سلمي أو اتفاق بين السوريين ما لم يأخذ ثمن كل رصاصة قتل الناس بها.
هذا الجوع امتداد لآلات القتل المتعددة، وهو استكمال لسجادات النار التي يفرشون بها أرضنا وبيوتنا… فإلى متى سيمتد هذا الموت، وإلى متى سيستمر هذا الجراد في نهمه وفي أكله للأخضر ولليابس!