حنين النقري – عنب بلدي
«في البر في البحر في الجو» عنوان برنامج مسابقات مسلٍّ كان يعرض على التلفزيون السوري أيام الجمعة، ويبدو أنه عنوان تهجير السوريين اليوميّ -وغير المسلّي أبدًا- منذ بدأت الثورة؛ وكما كلّ المسابقات التي لا تنتهي لا تعتبر رحلة الخروج من سوريا المرحلة الأخيرة التي تعلن فوزك في السباق، فإن كُتبت لك الحياة، ووصلت إلى البلد الهدف بسلامة جسدية عقلية وروحية، ستجد العديد من التحديات الجديدة التي تنتظرك فيه، فهل أنت مستعدّ لها؟
نحن نتكلّم اللغة العربية
إن لم تكن الوجهة المقصودة إحدى البلدان العربية، سيواجه اللاجئ على الأغلب هذا المطب، حتى لو كانت لغة هذا المجتمع الانكليزية، الأمر الذي سيبدو جليّا بمجرد أن تطأ قدمه أرض البلد الجديد وسيتفاجأ بأن اللغة التي نتعلمها في الكتب هي ليست ذاتها ما سيسمعه من الناس؛ ياللخيبة.
لا بأس، ليست نهاية الدنيا ألّا نفهم ما يقولون، كما تخبرنا ربا (20 عاما)، «بسبب تواجدي في اسكندرون وهي منطقة تركية يكثر فيها السوريون استطعت التفاهم مع المجتمع الجديد، الأتراك أنفسهم صاروا يتكلمون القليل من لغتنا كما أن بعض المحلّات باتت تضع إعلانات من قبيل «نحن نتكلم اللغة العربية».
كان حظ ربا جيّدًا بالاعتماد على التغيير في المجتمع التركي نفسه الذي غدا يتأقلم مع السوريين، لكن الاعتماد على الحظ لا يجدي دائمًا، فمحمد مثلًا طالب هندسة مقيم في مدينة تركية على البحر الأسود (طرابزون) حيث لا جالية سورية، ولا كلمات عربية «الخيار الوحيد أمامي هو أن أتعلم اللغة التركية، فلا سبيل للتفاهم مع الخبّاز والبقّال ومحصّل الفواتير وبائع البسطة إلا بكلمات يفهمونها، الأمر صعب لكنني أتاقلم معه، وأتعلم كلمات جديدة في كل محادثة أجريها مع أحدهم».
ديون.. وربّك بيدبرها
«كيف لك أن تزاحم الأطباء أو المهندسين من أهل البلد، طالما أن بلادك كانت نفسها تستعين بهم للتصميم والصناعات»، هذا ما يراه محمّد، فالعمل وفق التخصص أو الشهادة بات أمرًا صعبًا للغاية بالنسبة للشباب، ما يضطرهم للعمل بمهن بعيدة عنها تأمين لقمة العيش.
يكمل محمد «الأمثلة حولي أكثر من أن تحصى، التحدي المادي هو أول ما يفكر به الشاب قبيل اتخاذه لقرار السفر؛ ماذا سأعمل، من أين سأجني مصروفي، خاصة إن كان لا يرغب بالاعتماد على أهله، لا بد من وجود مهنة أو شغف يتقنه الشاب ليستطيع البحث عن عمل»، مردفًا «كثرة المتسولين السوريين دليل على عمق هذا التحدي».
أبو حسين، حلبي في أواخر الثلاثينيات، كان يطمح للجوء إلى إحدى بلدان أوروبا لكنّ شرطة اليونان أمسكت به هاربًا عبر أراضيها وأعادته إلى تركيا حيث كان، ويقول «خسرت بهذه الجولة معظم مدّخراتي، وجدت نفسي في تركيا بلا مال؛ أفهم بعض الكلمات التركية -كما كل أهل حلب- بالإضافة لعملي السابق كشيف، ما جعلني أشقّ طريقي وأعمل في أحد مطاعم منطقة أكشباط السياحية وآتي بأهلي ليقيموا معي.
ولم تكن طريق أبو حسين سهلة إذ يوضح «كانت أموري في البداية مأساوية جدًا، نمت في الشوارع وتعرضت لمواقف لا أرجو أن يتعرض لها أحد، لكن على الإنسان أن يسعى وربك بيدبرها».
ويبدو أن أبو حسين ليس الوحيد في مواجهته للتحديات المادية في البدايات، فسامح مهندس اتصالات مقيم في هولندا حاليًا، يخبرنا أن الديون كانت أكثر ما أثقله «كلفتني الرحلة الكثير وهنا لا تستلم أي مبلغ قبل أن تحصل على إقامة، الأشهر الأربعة الأولى كانت في سكن جماعي؛ شعرت بالعجز لا مال بين يدي، ديون كثيرة تثقلني، بلدي بعيد يعيش الحرب ولا استطيع أن أقدّم له شيء».
كم عدد أولادك؟
بالنسبة ﻷفراد هم صنيع مجتمعاتهم بالعادات والأفكار والشخصية والاهتمامات، يكون الخروج عن هذه المجتمعات صعبًا للغاية، ويزيده صعوبة حاجتهم للانخراط في مجتمع جديد ومدى تقبّل هذا الأخير لهم.
مها طبيبة مقيمة في بيلفيلد بألمانيا، ترى أن العقبات الاجتماعية من أشد التحديات التي واجهتها وأكثرها صعوبة.
في مجتمعاتنا العربية يعتبر سؤال «كيف حالك» من باب اللباقة والاطمئنان، لكنه يعتبر تدخّلا غير محمود من قبل الألمان، تقول مها «هناك الكثير من السلوكيات لا نتوقع أنها ستكون مزعجة لهذا الحد، مثل السؤال عن الاسم الأول ، الحالة الاجتماعية، وجود الأولاد، أو تقديم مساعدة للعجائز بدون أن يطلبوا ذلك».
مبادرات «إنسانية» كهذه قد تؤخذ باستهجان شديد لما لها من دلالات على عجز لا يرضى به الطرف الآخر.
وبالاضافة إلى اختلاف العادات والموروثات الاجتماعية، يواجه مها تحدّ آخر هو تقبل هذا المجتمع لها، فحجابها يشي بأصولها غير الألمانية، ولعلّه بالنسبة للبعض
الحاجز الأول في التواصل «هناك الكثير ممن يرفضون انخراطك بهم في المجتمع الجديد،فمثلًا إن كنت تتكلم الألمانية بلغة بسيطة يتظاهرون بعدم الفهم ويتصنّعونه بغية عدم التواصل أو عدم توصيلك لمبتغاك».
لكنها تعتقد أنه «الحل هو المزيد من الاحتكاك مع الألمان والاقتراب منهم في السكن، والدخول بنقاشات عميقة معهم لتوضيح وجهات نظرك وفهم ما لديهم».
إن لم تجدوا الخبز فلتأكلوا الكاتو
بلاد الشام، وتحديدًا لبنان وسوريا من أشهر البلدان العربية بموائدهم العامرة وأصناف مأكولاتهم المتنوعة؛ أمر «لذيذ» لكنه يتحول إلى ذكريات وحسرة بعد الهجرة، فالكثير من الشباب مغتربون بمفردهم ما يعني حاجتهم لتدبّر أمور الطهي والتي لا يعلمها معظمهم ﻷن «الست الوالدة» كانت تصنع المعجزات في مطبخها العامر.
وليس الشباب وحدهم من ينظرون بحسرة إلى موائد سوريا، إذ تعاني ربات المنازل من نفس المشكلة لعدم توافر المواد الأساسية التي يحتاجونها، كحال أم محمد المقيمة في اسكندرون وتقول «الخبز التركي لا يؤكل، لا يمكنك تغميس الطعام به بل إنه كالكاتو، أين هو من خبزنا الطري الرقيق؟ لكن الحمد لله بدأت بعض المحال هنا ببيع الخبز السوري لكثرة الطلب عليه».
آخرون اتجهوا لناحية مختلفة وهي محاولة إنتاج ما يحتاجون من أغذية، سارة طالبة جامعية تقيم في تركيا مع زوجها «بحكم الدراسة أقيم في منطقة بعيدة عن السوريين ومتاجرهم، أحاول التأقلم مع المجتمع التركي بشتى الطرق، لكنني أحاول بنفس الوقت تأمين احتياجاتي بطرقي الخاصة».
وتقوم سارة اليوم بإنتاج الزعتر «تمامًا كما كانت جدتي تفعل وبتطبيق وصفتها الخاصة بدءًا من مكوناته الأساسية كالزعتر البري» كما زرعت أيضًا قليلًا من الكزبرة في شرفة المنزل معتبرةً أن «اشياء كهذه تخفف شعوري بالغربة وتشعرني بالإيجابية والإنتاج، اليوم أوزع من الزعتر الذي أنتجه لصديقاتي التركيات».
اللاقانون
قنديل، طالب هندسة في جامعة الاسكندرية منذ عامين، ينقل لنا أن الصعوبات الأبرز خلال إقامته في مصر كان تحديات قانونية بالدرجة الأولى «هو بالأحرى تحدي اللاقانون، لا قانون يحكم الموظفين والدوائر الحكومية هنا، الوضع أسوأ مما هو عليه في سوريا أضعافًا مضاعفة، لم أصبح طالبًا نظاميًا في كلية الهندسة إلا بعد ما يزيد عن النصف عام من تقديم أوراقي كاملة، ولست سوى حالة بسيطة أمام غيري من الحالات التي عقّدها النظام البيروقراطي، واللانظام».
ومن المفارقات، أن تحدّي اللاقانون بحالة قنديل معكوس بحالة رهف مهندسة الكترون في هولندا «لم نعتد كسوريين على وجود قوانين للسير والمواصلات والدراجات الهوائية، كان هذا أكثر ما أربكني ببدايات قدومي لهولندا لدرجة أنني لم أنتبه لتحدي اللغة أمام تحدّي القوانين المحلّية، لكنني شيئا فشيئا أمرّن نفسي على تعلّم قوانينهم واحترامها».
قنديل يرغب اليوم في أي فرصة ليكمل الماجستير في أوروبا، «هناك تجري المعاملات حتى في السفارات بسرعة وخفّة، للأسف الوطن العربي يسحق الإنسان العربي عند الشدة، والبلاد التي كانت تستقبلنا بحفاوة صارت تغلق أبوابها دون رحمة».
تحديات كثيرة، بل هي في الواقع أكثر من أنّ نحصيها، فما ذكره لنا كل شخص من الواردة أسماءهم في هذا التقرير يفوق بكثير ما اقتبسناه منه، لكن الهدف تسليط الضوء على جزء بسيط من مشكلات السوريين خارج سوريا، مشكلات يصفها البعض بالسطحية والبعيدة عن هموم الوطن، لكن الحديث عنها لن يكون من باب الترف على الإطلاق، عندما نعلم أننا نتحدث عن أمور يتعرض لها قرابة 6 ملايين سوريّ حسب تقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان منتصف آذار الماضي.