طريف العتيق
مع تقدم الثوار في الأسابيع والأشهر الأخيرة على مختلف جبهات القتال في الشمال والجنوب السوريين، يعود إلى السطح مجددًا الحديث المتكرر عن «الدعم الخارجي» الذي يساند الفصائل المقاتلة في عملياتها تلك، ما يتيح لها أحيانًا تحرير مدنٍ كاملة في خمسة أيام. وقد شكلت قضية الدعم الخارجي واحدًا من المواضيع التي انقسمت آراء السوريين حولها، وحول كيفية التعاطي معها، بين مؤيّد لأيٍ دعمٍ طالما أدى لتقدم مقاتلي الحرّ في المدن والبلدات السورية أمام قوات النظام، وبين رافضٍ لثورة تغرق في «الدولار» متحولة إلى أداة بيد القوى الإقليمية والعالمية لتصفية حساباتهم المختلفة، وترتيب محاصصات لا تتناسب والوضع الثوري.
وهكذا تنتشر باستمرار تقارير مسربة وأخرى علنية تتحدث عن أرقام مليونية تلقّاها الفصيل الفلاني من جهة إقليمية، أو تلك التي تسلمتها شخصيات بعينها لدعم معارك أو فتح جبهات جديدة، ما يدفع البعض إلى القول بعدم نزاهة العمل المسلح على إطلاقه، وعدم جدوى استمرار معارك يقودها ثوار بتمويل جهات خارجية لم تصدق يومًا في دعم مطالب الشعوب.
كذلك تعزى خسارة الثوار لجبهة قتالية، أو انسحابهم من منطقة بُذل الكثير للمحافظة عليها؛ إلى ميول الداعمين وتناقضات المصالح الإقليمية والدولية وحساسيات الانتخابات المحلية في تلك الدول وعقود الاتفاق بين الدول المتحاربة، حتى يخال للبعض أن نجاح الثورة السورية غير ممكن قبل حل كافة التعقيدات العالمية المتراكمة في العقود العشرة الأخيرة.
يبدأ الإشكال السابق من رسم صورة مسبقة لثورة مظلومين نقية، تتمرد على نظام حكم مستبد، وتتمكن بتواضع قوتها وإمكانياتها من التفوق السياسي والعسكري والإعلامي بمحض قدراتها الصافية، دون أن تقبل قرشًا أو بندقية من أحدهم كائنًا من كان، وتجافي هذه الصورة الواقع المعاش عندما تعطي أولوية تحديد المسار للمبادئ النظرية والأفكار المجردة عن معطيات الواقع ومتطلباته، وهكذا تكون الأولوية في الإخلاص للمبادئ التي في الرأس، لا لواقع ينزّ ألمًا ويصرخ موتًا في وجه المتعاطين معهم عساهم يقطعوا انعزالهم عنه.
ولا تجافي تلك النظرات معطيات الواقع فحسب، بل التجارب التاريخية الأكثر بروزًا في هذا المجال وأذكر هنا حرب الاستقلال الأمريكية، او ما تعرف أيضًا بالحرب الثورية الأمريكية (1775–1783م)، وهي الحرب التي أفضت إلى استقلال المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية عن الإمبراطورية البريطانية آنذاك، وتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة جورج واشنطن.
فبعد تغلب البريطانيين على الفرنسيين والهنود انتقلت معظم الأراضي في أمريكا الشمالية من النفوذ الفرنسي إلى البريطاني، الذي أخذ في التغلغل التدريجي ضمن المجتمع حتى وصل أوجه قبيل 1775 بفرض الضرائب على مواد تجارية عدّة دفعة واحدة كالرصاص والأصباغ والورق والشاي، ونقل وحدات من الجيش البريطاني إلى مدن أمريكية، حيث كانت الإمبراطورية البريطانية تأمل من هذه المستعمرات أن تعوض خسائرها الاقتصادية المتلاحقة.
الأمريكيون قاطعوا السلع الإنكليزية وأعلنوا عصيانًا مدنيًا على دفع الضرائب سرعان ما تطور إلى حراك مسلح بدعم مباشر من الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال لافيَت، حيث رأت فرنسا الملكية آنذاك أن دعم الثوار لإسقاط النفوذ البريطاني في المنطقة سيعيد لها ما خسرته مسبقًا، طول الكفاح الأمريكي أثمر أخيرًا عن استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا عام 1783 بتوقيع اتفاق سياسي رعته باريس كذلك، ولم يعنِ ذلك تبعيتهم للفرنسيين، بل سرعان ما امتدت نتائج الثورة الأمريكية عكسًا إلى القارة الأوروبية بسنوات قليلة لتندلع الثورة الفرنسية عام 1789 مطيحة بالملكية فيما بعد ومؤسّسة للجمهورية الفرنسية.
لن يشكل الدعم الخارجي لوثة على من يتعامل معه إذا ما تقاطعت المصالح الثورية مع مصالح إقليمية أخرى، فكما يبني أي نظام سياسي أو عسكري تحالفاته على أساس من المصالح المتبادلة، يصح للأطياف الثورية التي تسعى لأن تكون بديلًا سياسيًا وعسكريًا أن تتصرف بذلك، طالما بقيت الأهداف الأولى هي بوصلة العمل والاتفاق.