عنب بلدي – نور عبد النور
طريق جبليّ ضيّق، يتسع بالكاد لسيارتين متجاورتين، تتجه إحداها جنوبًا نحو الأراضي السورية، وتعود الأخرى إلى الشمال، حيث قرى جنوب غربي تركيا المحاذية لسوريا.
يؤدي الاتجاه الأول سريعًا إلى نقطة حدودية مرتفعة، تصلها رطوبة البحر المتوسط في أيام الصيف، وتقتضي من عابرها بعد وصوله إلى الجانب السوري، “خلوة أمنية” مع مندوب من المخابرات، يخرج منها “مواطنًا صالحًا”.
تسبق عملية سلوك الطريق من تركيا نحو الأراضي السورية عبر معبر كسب، مجموعة قرارات يتخذها اللاجئ السوري، تبنى على اعتبارات مادية ومعيشية، وتُحاكم بناء على مدى “نظافة” ملفه الأمني لدى النظام السوري، بينما تبقى العملية بالمجمل في إطار المغامرة المجهولة النتائج.
ومع التضييق الذي تعرض له السوريون ذوو الوضع غير المستقر قانونيًا في تركيا، أصبحت المغامرة نوعًا من الاستسلام، أمام احتمالات زج المخالفين في مخيمات حدودية، أو ترحيلهم إلى الشمال السوري، وفق الإجراءات التركية المتبعة من بداية تموز الماضي.
من اسطنبول و”نازل”
على اعتبار أن مدينة اسطنبول نالت الحظ الأوفر من التشديد الأمني خلال الشهرين الماضيين، فإن أعداد العائدين منها إلى سوريا تزايدت بشكل كبير، واتجه القسم الأكبر طواعية إلى مناطق سيطرة النظام عبر نقطة كسب الحدودية.
إدارة المعبر من الجانب التركي رفضت التصريح لعنب بلدي بعدد حَمَلة “وثيقة الحماية المؤقتة” من اسطنبول أو باقي الولايات التركية، الذين عادوا إلى سوريا، لكن سائق سيارة نقل ركاب من اسطنبول إلى معبر كسب، أكد تكرار الرحلات التي يسيّرها بشكل شبه يومي.
ورصد مراسل عنب بلدي في ولاية هاتاي، جنوبي تركيا، دفعات عديدة من اللاجئين الواصلين إلى معبر كسب، كانت إحداها في 21 من آب الماضي، حين استقبل المعبر صباحًا نحو 145 شخصًا قادمين من اسطنبول، كما وصلت في مساء اليوم ذاته حافلة تقل 50 شخصًا آخرين.
وعلمت عنب بلدي من سائق سيارة لنقل العائدين إلى سوريا (نتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية) أن تكلفة الرحلة ذات الساعات الـ 16، في سيارة تتسع لعائلة واحدة، تصل إلى ألفي ليرة تركية، أي ما يعادل 400 دولار أمريكي، وهو مبلغ قابل للتفاوض.
ولاية هاتاي أيضًا شهدت حركة عبور أكبر إلى سوريا للاجئين كان يقيمون فيها، بحسب مراسل عنب بلدي، وبالتحديد من بلدة يايلاداغ الحدودية مع سوريا، والمقابلة لبلدة كسب السورية، في ريف اللاذقية.
دعاية منظمة
استمر إغلاق معبر كسب أمام حركة المسافرين والتجارة بين سوريا وتركيا منذ عام 2011، حتى آذار الماضي، وتخلل تلك الفترة بعض حالات العبور الفردي لسوريين إلى تركيا خلال العامين الماضيين، بطلبات كان يتم تنظيمها عبر ولاية هاتاي، بناء على تقارير طبية أو أوراق “لم شمل” تقدم إلى الجانب التركي، ويُعلم بها الجانب السوري من المعبر.
ومنذ شباط الماضي، أعيد تفعيل عمل المعبر أمام العائدين من تركيا، برعاية وسيط المصالحات في سوريا، عمر رحمون، الذي ادعى في “تغريدة” نشرها في نيسان الماضي، أن “السوريين يعودون بالآلاف من تركيا”، منذ شباط.
وعقب الحملة التركية التي استهدفت السوريين المخالفين، برزت حالات العودة التي تحدث عنها رحمون إلى العلن، ودفعت الماكينة الإعلامية للنظام باتجاه الترويج لـ “أمان العودة”، بمنشورات تداولتها الصفحات الموالية، نشرت فيها “تعليمات رحمون لخطوات العودة إلى سوريا”.
بالمقابل، رصدت عنب بلدي تداول صفحات ومجموعات خاصة بالسوريين في تركيا، نصائح وتجارب شخصية للاجئين سوريين عادوا عبر معبر كسب، كانت بمجملها ذات مضمون إيجابي، وشجع أصحابها على العودة، كما زودوا منشوراتهم بأرقام سائقي سيارات يوصلون الراغبين بالعودة إلى الحدود، وآخرين يستقبلونهم عند الجانب السوري لتوصيلهم.
وتكررت المنشورات المتشابهة، وتضمنت تعليمات مطابقة لتلك التي نشرها رحمون، عقب الحملة التركية، لتشجيع اللاجئين على العودة.
“عودة طوعية” و”تسوية”
يضطر العائدون إلى سوريا عبر كسب أن يمروا بأحد مراكز “الأمنيات” الحكومية التركية، في ولاية هاتاي، قبل الوصول إلى المعبر، حيث يوقعون على أوراق “العودة الطوعية” التي تبرئ تركيا قانونيًا، على اعتبار أن اللاجئين عائدون إلى مناطق “غير آمنة”، وهو ما يخالف مواثيق الأمم المتحدة.
السائق الذي تواصلت معه عنب بلدي، أكد أنه يقوم بتوصيل الركاب إلى مركز أمنيات في مدينة أنطاكيا (مركز ولاية هاتاي)، وينتظرهم لحين إتمام أوراق “العودة الطوعية” وتسليم وثيقة الحماية المؤقتة الخاصة بهم، ثم ينقلهم إلى الجانب التركي من المعبر، مع ورقة تؤكد طواعية خروجهم.
وبانتقال السوري، الذي تخلص لتوه من بطاقة اللاجئ، إلى الجانب السوري من المعبر، يستقبله عناصر من أمن الدولة والأمن العسكري، ويُطلب منه تقديم أي وثيقة رسمية سورية يملكها (هوية، جواز سفر، دفتر عائلة).
وفي حال كان الشخص القادم من تركيا مطلوبًا للخدمة العسكرية النظامية أو الاحتياطية، يُمنح ورقة من الأمن العسكري تخوله التحرك في سوريا، ويُطلب منه مراجعة شعب التجنيد خلال مدة أقصاها 15 يومًا.
ما قبل الحملة ليس كما بعدها
يشدد السائق الذي ينقل الركاب من اسطنبول إلى الجانب التركي من معبر كسب، أن جميع من أوصلهم أجمعوا أن التعامل مع العائدين “جيد” في الجانبين التركي والسوري، من قبل موظفي الحدود.
الأمر ذاته يؤكده مراسل عنب بلدي، الذي رصد عودة مجموعة من السوريين من بلدة يايلاداغ الحدودية التركية عبر معبر كسب، لكنه يشير إلى أن هذا التعامل اقتصر على فترة ما بعد الحملة الأمنية في تركيا، كنوع من الترويج للعودة.
قبل الحملة، أي خلال الفترة الممتدة من شباط حتى حزيران الماضيين، تعرض عدد من الشبان لحالات اعتقال على المعبر، ووثقت عنب بلدي عشر حالات لشبان تعرضوا للاعتقال، بعد انتقالهم من الجانب التركي إلى نقطة كسب الحدودية.
وتتحفظ عنب بلدي على ذكر أسماء المعتقلين، لضمان سلامة ذويهم في الداخل السوري.
ويتداول أهالي بلدة يايلاداغ قصصًا لأشخاص عادوا إلى سوريا، لكنهم قتلوا على يد قوات الأمن بعد اعتقالهم عند المعبر، ونقل مراسل عنب بلدي هناك عن صاحب متجر ألعاب سوري في البلدة، يُدعى زكريا، تأكيده أن جاره، الذي يعمل في مغسل للسيارات، قتل عقب عودته إلى سوريا.
ويضيف زكريا، أن جاره اعتقل في منطقة كسب عقب عودته، وقتل على إحدى الجبهات العسكرية بعد إلحاقه بقوات النظام، بينما لا يزال مصير شقيقه، الذي كان يرافقه لحظة دخوله إلى سوريا، مجهولًا.
بعض العائدين، تعرضوا، وفقًا لشهادات من سكان يايلاداغ، للتحقيق في الأفرع الأمنية، واضطروا لتقديم معلومات عن النشاط السياسي للاجئين ما زالوا في تركيا.
في حضن الوطن
لا تتجاوز فترة المكوث في الجانب السوري من معبر كسب ساعة ونصفًا، قبل أن يستقل العائدون سيارات أو حافلات، كانوا قد اتفقوا مع سائقيها سابقًا، لتقلهم إلى مدنهم أو قراهم.
عنب بلدي تواصلت مع سائق سيارة أجرة في ريف اللاذقية، يعمل في توصيل العائدين من المعبر إلى دمشق، وعلمت منه أن جميع الأشخاص الذين يدخلون الجانب السوري يخضعون لتسوية لأوضاعهم.
ويطلب السائق مبلغ 150 ألف ليرة سورية، لقاء الرحلة من معبر كسب إلى دمشق، ويزداد السعر مع زيادة عدد الحقائب التي يحملها العائدون، على اعتبار أن السائق سيضطر لدفع المزيد من الرشاوى للعسكر على الحواجز الأمنية خلال الطريق، لإقناعهم بعدم التفتيش، وبالتالي تقليص وقت الرحلة.
بالمقابل، تحوّل النقطة الأمنية في معبر كسب أسماء من ترغب باعتقالهم، إلى حاجز مشقيتا، الذي يبعد حوالي عشرة كيلومترات، ليتولى مهمة اعتقال بعض الأشخاص، بعيدًا عن المعبر.
رغم ذلك يصر السائق على أنه يضمن سلامة الرحلة عبر مزيد من الرشاوى للحواجز، لكن تعرض العائدين للمساءلة في فترات لاحقة يبقى أمرًا غير مضمون.
أما المتخلفون عن الخدمة فسيضطرون لمراجعة شعب التجنيد، والالتحاق بالجيش، في حال لم يكونوا قد أتموا دفع “بدل الخدمة” في القنصلية السورية باسطنبول.
ووفق ذلك، يحافظ العائدون عبر معبر كسب على صورة “حضن الوطن الدافئ” لمدة قصيرة، أما سجلات الأمن، وإن تغاضت عنهم، فلن تنسى أنهم احتاجوا إلى “تسويات” ليصبحوا مواطنين صالحين.