نبيل محمد
تقف فتون الجلبي ذات التسعة أعوام، تحت لوحة للجامع الأموي في دمشق، مرسومة بأقلام الرصاص، لم تُغفل فيها تظليل الأرضية بانعكاس النوافذ، وتشير بأصابعها التي من الصعوبة بمكان أن تصل إلى عمق اللوحة المعلقة على الجدار بمسافة أطول منها، لتحكي لزوار معرض شاركت به، أنها استخدمت عدة أقلام رصاص مختلفة في إنجاز لوحتها، فظللت بهذا وحدّدت بذاك، وملأت أعماق التكوينات بقلم مختلف.. كلها أقلام رصاص، إلا أن فتون تعرف الفرق بين هذا القلم وذاك، وتدرك أين عليها استخام هذه التقنية وأين عليها استبدالها.
ستة أطفال سوريين مقيمين في اسطنبول، اعتادوا الجلوس على طاولات التدريب على الرسم والتظليل بأقلام الرصاص خلال شهرين من عطلة الصيف، استطاعوا الخروج بأربع وثلاثين لوحة فنية، كانت قادرة على تشكيل معرض في صالتين من صالات مركز الدار في اسطنبول، ليكون أكثر حقيقة عليهم إثباتها لزوار المعرض، أنهم هم من رسموا هذه اللوحات ومن دون تدخل أصابع خبير؟ حقيقة سوف تحاول إنكارها كزائر للمعرض، عندما يقف طفل منهم بعمر سبع أو ثماني سنوات ليتحدث عن لوحته التي استمدها من التراث البنائي الشرقي في دمشق أو حلب أو حماه أو اسطنبول، أو من الطبيعة ومكوناتها. لغته لم تسعفه بعد لنقاش كل هذه التفاصيل، لكن أصابعه الصغيرة صنعت الفرق، أصابعه وارتباطه بلوحته سوف تجعلك على يقين تام بأن أحدًا لم يتدخل فيما ينجز الطفل. لكن هذا الإنجاز كان غريبًا أو غير اعتيادي على الأقل، فلا باقة زهور اعتاد الأطفال بهذه السن رسمها، ولا بطاقة معايدة للأم بعيدها، ولا ميكي ماوس. إنها نواعير حماه، والمسجد الأموي بدمشق، وقلعة حلب، وبرج غالاتا، وجامع السليمانية، وغزال تنبت من قرونه أغصان تبني فيها العصافير أعشاشها، وذئب ينظر خارج اللوحة، وحمار صغير متعب، وفتاة صففت شعرها بنفسها ومضت في طريق طويل. موضوعات مختلفة رسمها الأطفال الذين ما فتئوا يتنقلون بين لوحاتهم بملابس ملونة جهزوها قبل أيام في خزاناتهم، ثم جاؤوا برفقة أهاليهم لافتتاح معرضهم.
تدريب يومي خاضه الأطفال في مركز الدار، المركز الذي يجمع أطفالًا وأسرًا في صفوفه وصالاته ومطبخه، بمبادرة أهلية أشرف عليها السوري الفلسطيني مازن ربيع، ليحول الدار خلال ست سنوات إلى مركز اجتماعي ثقافي أهلي، يقدم مختلف النشاطات التعليمية والتدريبية والترفيهية.. اعتاد الأطفال في الدار يوميًا على تنمية مواهبهم، وتطوير معارفهم، بمساعدة مجموعة من الأساتذة والمدربين من مختلف الاختصاصات والجنسيات، يدركون تمامًا أن مشروع الدار صناعة الحياة والابتسامة لكل من يزوره.
في الدار.. دار هؤلاء الأطفال، ستجدهم اليوم ينتظرون الزوار ليعيدوا ما قالوه بالأمس لمن جاء ليشاركهم فرحتهم بمنجزهم، يقف بعضهم عند بابها وبعضهم في حديقتها، وآخرون يرقصون بين اللوحات.. اللوحات التي رسم بعضهم فيها تفاصيل من بلاده التي لا يعرفها، لم يزر من رسم المسجد الأموي رواقه فالتقط تفاصيل حية منه، ولم يمشِ من رسم قلعة حلب حول سورها المهول، لقد شاهدوا تفاصيل أوطانهم في التلفاز، أغلبها مدمر، وتناقلوا صورة معالمها البنائية والطبيعية عبر السوشيال ميديا التي ما زالت خبرتهم فيها بريئة وضعيفة نظرًا لسنهم، لكنهم عرفوا كيف ينقلون ذلك إلى لوحاتهم بحيادية الأسود والأبيض، وقدرته على نقل الإضاءة والظل، وتجسيد التباين، وتكعيب الأحجار والزوايا البنائية.
جلنار مرتضى ونهلة الجلبي وسليمان الناصر وزين الناصر وفتون الجلبي وبيسان الناصر ما عادوا مبتدئين اليوم. عرفوا كيف يستخدمون أدواتهم البسيطة وكيف يعملون بروح فريق واحد كما يشير مدربهم محمد نور. ساعات الجهد الطويلة منذ الصباح الباكر وحتى المساء علمتهم أنهم رسامون قادرون على مواجه الجمهور بلوحاتهم، وأن الفن بقلم وحيد وورقة قادر على أن يلوّن حياتهم ويصنع اختلافًا. لاجئون هم لكنهم وأسرهم يعرفون كيف يطوّعون حياة على مقاسم أجسادهم الصغيرة والقوية.