آلاف المختفين قسريًا في سوريا.. يغيبون عنا وتبقى حقوقهم حاضرة
عنب بلدي – نينار خليفة
في اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، يستذكر أنس صديقه “أبو عماد” الذي طال غيابه في معتقلات النظام السوري.
ست سنوات مضت منذ اختفائه ولا معلومات عن مكان وجوده أو ما حل به، رغم المحاولات الكثيرة من قبل أهله وأصدقائه لمعرفة أي شيء يخصه.
في شهر شباط من عام 2013 اعتقل الشاب “أبو عماد”، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 21 عامًا على خلفية نشاطه السلمي، وبعد ستة أشهر من اختفائه خرج أحد أصدقائه من المعتقل ليخبر أهله أنه كان معه، ومنذ ذلك الحين فشلت كل محاولات أخته المحامية في الحصول على أي تحديث عن وضعه، رغم طرقها كل الأبواب الممكنة.
قصة “أبو عماد” هي قصة واحدة من آلاف الأسر، التي تحاول الحصول على أيّ خبر عن مفقوديها من شأنه أن يثلج قلوبهم التي أشعلها نار الغياب، أمل قد يزيد حينًا عندما يتبادر إلى مسمعهم أن أحدًا قد سمع عن مفقودهم أو رآه في أحد الأفرع الأمنية، ويتلاشى آخر مع عدم تمكنهم من التأكد من كل ما قد يقال وسط استغلال بعض الانتهازيين لحالهم.
يروي أنس لعنب بلدي الذكريات التي جمعته مع صديقه، وما قد يكون حل به من تعب طوال فترة احتجازه التي طالت، وهو يعاني من مرض السكري، ويقول، “كنا عندما نسمع بحملة إفراج عن المعتقلين نذهب من الصباح الباكر مصطحبين معنا بعض الثياب لننتظر على باب قيادة شرطة دمشق، لنجد أن (أبو عماد) قد سبقنا إلى هناك، وحتى عندما كنا نتفق ألا نخبره بذهابنا خوفًا عليه من التعب كنا نجده قد وصل قبلنا إلى مكان التجمع”.
“لم يكن (أبو عماد) يشعر بالتعب من الوقوف والانتظار، لكن اليوم من المؤكد أن شعوره بالتعب قد بلغ حدًا كبيرًا مع عدم حصوله على دواء الأنسولين الذي يحتاجه”، يضيف أنس.
لم تتمكن شقيقة “أبو عماد” من الحصول على أي معلومات عنه، رغم سؤالها المتكرر في قيادة شرطة دمشق والقصر العدلي وسجن صيدنايا والشرطة العسكرية والقضاء العسكري، ليكون الرد بعدم وجود اسم له، رغم عدم استصدار شهادة وفاة له بالنفوس، فمن أخفاه عمل على إنكار وجوده أيضًا.
الفرق بين الاعتقال والاختفاء القسري في المعاهدات الدولية:
الاعتقال التعسفي: هو اعتقال أشخاص دون سبب مشروع أو دون إجراء قانوني، وهو عادة يسبق الاختفاء.
أما الاختفاء القسري فيعرف بثلاثة عناصر:
– الحرمان من الحرية ضد إرادة الشخص المعني.
– ضلوع مسؤولين حكوميين، على الأقل بالقبول الضمني.
– رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده.
إحصائيات مرعبة
كواحدة من أدوات الحرب، عمد أطراف النزاع السوري إلى توظيف الاختفاء القسري، في محاولة للضغط على الخصوم وتغييب الحقائق.
تقارير حقوقية كثيرة صدرت خلال الأعوام الثمانية الماضية تحدثت عن آلاف حالات الاختفاء، في محاولة للدفع بالملف الحساس، الذي لم ينجح أي طرف حتى الآن بإحراز تقدم فيه، وسط إنكار أطراف النزاع لوجود مختفين لديهم، وتكتمهم عن أي معلومات قد تسهم في الوصول إليهم.
ووسط صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، تتحدث “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” عن وجود ما لا يقل عن 98 ألف مختفٍ قسريًا في سوريا على يد الأطراف الأساسية الفاعلة، منذ شهر آذار من عام 2011 حتى تموز من عام 2019.
معوقات تواجه توثيق المختفين
مسؤولة ملف المعتقلين في “الشبكة”، نور الخطيب، أوضحت لعنب بلدي أن “الشبكة” تستند في إحصائياتها إلى قاعدة بيانات المعتقلين والمختفين قسريًا التي عملت على بنائها على مدى ثماني سنوات، معتمدة بذلك على مصادر متعددة منها أعضاء الشبكة المنتشرون بالمحافظات، والناشطون المحليون، وعائلات الضحايا، والناجون أنفسهم من السجون والمعتقلات السورية، كما خصصت الشبكة روابط إلكترونية للتوثيق وأرقام هواتف للتواصل، لتسهيل عملية الوصول لأكبر شريحة ممكنة من العائلات والناجين والشهود.
وأشارت الخطيب إلى صعوبات كثيرة تواجه المنظمة في هذه العملية، ومن أهمها عدم إيمان المجتمع السوري بجدوى عمليات التوثيق وفقدان الأمل منها، نتيجة خذلان المجتمع الدولي وفشله بتطبيق القرارات الصادرة عنه المتعلقة بالمعتقلين والمختفين، وهو الأمر الذي يتطلب من العاملين في هذا المجال بذل جهود مضاعفة بتوعية العائلات والأهالي بأهمية التوثيق في تحقيق مسار العدالة والمحاسبة.
وإلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال التحديات الأمنية والخطر الذي قد يواجه العاملين في مجال توثيق الانتهاكات بمختلف المناطق السورية مع اختلاف الجهات المسيطرة عليها.
وعن الجهات الدولية، التي حصلت على إحصائيات “الشبكة” مؤخرًا بغرض استخدامها بتحريك ملف المختفين قسريًا في سوريا ودفعه للأمام، بيّنت الخطيب أنها تتمثل بـ”لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول الجمهورية العربية السورية”، و”آلية التحقيق الدولية المحايدة المستقلة”، و”المفوضية السامية لحقوق الإنسان”، و”المقررين الخاصين المعنيين بحالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري” وذلك عبر توثيق الحالات ضمن استمارة خاصة لديهم، إلى جانب منظمة “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” وغيرها.
تحييد ملف المختفين عن التجاذبات السياسية
في ظل غياب أي تقدم ملموس في ملف المختفين والمعتقلين تُطرح التساؤلات حول أسباب تجاهل المجتمع الدولي لهذه الإحصائيات المرعبة، والجهود التي تراوح مكانها للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
المدير التنفيذي لمجموعة “ملفات قيصر”، المحامي إبراهيم القاسم، اعتبر أنه لا توجد أي جدية في حل قضية المعتقلين والمعتقلات، وإطلاق سراحهم، وبيان مصير المختفين والمختفيات قسريًا.
وفي معرض حديثه إلى عنب بلدي، لفت إلى أن هذه القضية لا تحتاج إلى مفاوضات سياسية أو تحويل إلى ملف سياسي تفاوضي يخضع للتجاذبات، وإلى ورقة ضغط بين الأطراف، إذ إن ذلك يعتبر انتهاكًا لحقوق ضحايا جريمتي الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري.
ورأى القاسم أن الحل الوحيد لهذه القضية هو إطلاق سراح جميع المعتقلين، وبيان مصير المختفين، ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم.
جهود المنظمات الحقوقية في ملف المختفين
وفيما يخص الجهود المبذولة لتحريك ملف الاختفاء القسري من قبل المنظمات الحقوقية السورية والدولية، أوضح مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديثه لعنب بلدي أن آخر هذه الجهود تتمثل تحديدًا في محاولة الضغط على مجلس الأمن لإصدار قرار خاص بالمعتقلين السوريين يركز عليهم فقط، ويدفع نحو المطالبات المتمثلة بإطلاق سراحهم، والكشف عن مصير المتوفين منهم وأسباب وفاتهم، وتسليم الجثث لعائلاتهم، إلى جانب دخول منظمات دولية وطبية لمعاينة وضع السجون، وتقديم كشوفات وأرقام بأسماء المعتقلين.
وأشار العبد الله إلى أن واحدة من أسوأ النقاط في الحالة السورية هي عدم معرفة عدد المفقودين رغم وجود أرقام تقريبية من قبل بعض المنظمات، إلا أن كثيرًا من المعلومات حولهم تبقى غير واضحة.
ولفت العبد الله إلى أن عبء إعداد قوائم وأسماء للمعتقلين وإصدارها ونشرها أو تسليمها للأهالي وللمنظمات الدولية يقع عادة في أي نزاع على عاتق الحكومة، ولذلك فالضغط على الحكومة السورية واجب بهذا الموضوع، مبينًا أنه سيكون هناك تحرك للمطالبة بذلك في “الجمعية العامة للأمم المتحدة” التي ستعقد خلال شهر أيلول الحالي.
تحرك دولي
وبيّن العبد الله أن قرار مجلس الأمن رقم “2474” حول المفقودين في النزاعات الذي تبناه في شهر حزيران الماضي، يعد الأول من نوعه بموضوع الاختفاء القسري والمفقودين في العالم، ومن أجل ذلك تعمل المنظمات الحقوقية على الضغط لاستصدار قرار من المجلس خاص بالمعتقلين السوريين، وفي حين قد يسهم ذلك في الوصول إلى نتائج ملموسة بموضوع التركيز على ملف المعتقلين السوريين، إلا أنه لا يعني بالضرورة إطلاق سراح المعتقلين بالسرعة المرجوة بحسب العبد الله.
ولفت مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” إلى أن الإطار القانوني الذي يحكم موضوع الاختفاء القسري موجود وواضح في اتفاقيات “جنيف”، والقانون الإنساني الدولي، وقانون حقوق الإنسان، إذ إنه يعد انتهاكًا و”جريمة حرب” لا يمكن السكوت عنها.
أقر مجلس الأمن الدولي بالإجماع، يوم 11 من حزيران 2019، القرار رقم “2474”، لبحث قضية المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة، مطالبًا بالكشف عن مصيرهم وحماية المدنيين في جميع أماكن الصراع، ودعا المجلس أطراف النزاعات المسلحة إلى البحث بنشاط عن الأشخاص الذين تم الإبلاغ عن اختفائهم وتيسير إعادة رفاتهم.
وبناء على الزخم الذي أوجده القرار “2474”، عقد مجلس الأمن أول إحاطة عن المحتجزين والمفقودين في سوريا، يوم 7 من آب 2019، تم خلالها الاستماع لشهادتي الناشطتين آمنة الخولاني وهالة الغاوي، اللتين تحدثتا باسم أسر المفقودين والمختفين قسريًا.
انتقادات لبيدرسون
وتترافق مع التحركات الحقوقية أخرى سياسية تمثلت بطرح ملف المختفين والمعتقلين في محادثات “جنيف” و”أستانة”، وبتصريحات من قبل المبعوث الأممي الحالي، غير بيدرسون، والسابق، ستيفان دي مستورا، كان أحدثها تصريح بيدرسون قبل أيام بأن اللجنة الدستورية التي يجري العمل على إطلاقها حاليًا، يجب أن تكون مصحوبة بتغييرات لها تأثير على أرض الواقع، بما فيها إحراز تقدم بملف المعتقلين والمختفين قسريًا.
ويرى العبد الله أن تصريح بيدرسون يأتي بمعزل عن جهود المنظمات الحقوقية، معتبرًا إياه مجرد تطمينات دون بذل أي جهود حقيقية من قبله، فمنذ إحاطته الأولى عند تعيينه في منصبه، التي صرح خلالها بأن قضية المعتقلين والمفقودين ستكون أولوية بالنسبة له، لم يقدم أي شيء يذكر، كما يغيب أي تحديث من قبله عن أنشطة وجهود تخص موضوع المعتقلين.
وحتى اليوم لم يتم إطلاع المنظمات أو الأهالي على أي خطة لمكتب المبعوث الأممي بموضوع المعتقلين، والأسوأ من ذلك أن بيدرسون لم يحاول استعادة هذا الملف من مسار محادثات “أستانة” إلى مفاوضات “جنيف” الذي عمل على نقله دي مستورا، بحسب العبد الله.
تبادل أسرى وليست إفراجًا عن معتقلين
وأكد العبد الله على ضرورة إعادة الملف إلى “جنيف”، لأن نقله أدى إلى تغييب دور المنظمات الحقوقية وأهالي المعتقلين، كما أن الإطار القانوني واضح في “جنيف”، حيث توجد “لجنة التحقيق الدولية التابعة لمجلس حقوق الإنسان”، التي من الممكن أن تسهم بتقديم معطيات ومعلومات لمكتب المبعوث الخاص، وأن تسهم كذلك بتقديم إحاطة له، إضافة لوجود “مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان”، الذي بإمكانه الضغط على المفاوضات.
وفي المقابل ينحصر النقاش حول الموضوع في أستانة بثلاث دول هي إيران وروسيا وتركيا، والتي لا تعتبر إيجابية بهذا الملف، بحسب العبد الله، كما أن هذه النقاشات ركزت على تبادل أسرى الحرب المقاتلين ومعتقلي الفصائل على نطاق ضيق، وقد خلت الصفقات التي تمت في هذا الإطار من الشفافية، إذ كانت عبارة عن تبادل للمقاتلين أكثر منها إطلاق سراح المعتقلين.
وأكد العبد الله على ضرورة أن يكون التحرك بشأن قضية المعتقلين والمختفين شرطًا مسبقًا لأي مفاوضات سلام جادة، أو الحديث عن عودة اللاجئين إلى بلدهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :