لماذا غابت الفنون عن الثورة السورية

  • 2019/09/01
  • 1:02 م

مشهد من مسرحية طب القاطع في المركز الثقافي لمدينة إدلب - 25 نيسان 2019 (عنب بلدي)

أسامة آغي

يمكن تسمية الثورة السورية بأنها ثورة حرية، هذه الحرية ليست ثوبًا نرتديه، أو طقسًا نمارسه لوقت ونمضي عنه، بل هي تعبير عن درجة احتقان المجتمع السوري، التي سبّبها النظام الاستبدادي الحاكم، الذي استأثر بكل مقدرات الشعب السوري، عبر هيمنته الأمنية والاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية والفكرية.

لذلك كانت الثورة السورية في طورها الأول استدراجًا للزمن، لتغيير ترتيب أولويات المجتمع، من أجل إعادة رسم المشهد الوطني بأدوات وألوان وفكرة جديدة، وصولًا إلى عتبة الحرية، وبناء الدولة الديمقراطية العادلة. هذا المشهد الوطني كان أمامه أن يحتمل الدم والأجساد الممزقة بفعل براميل الموت، وبفعل صواريخ شديدة الفتك، أرادها النظام أن تكون لغته الوحيدة في الحوار مع الشعب السوري.

وكان المشهد ينفتح على إرادة وتصميم الناس على الوصول إلى ضفاف الحرية والكرامة، وما يستتبع ذلك من نزيف دم، ومن دمع مالح تذرفه أعين الأمهات على فقد فلذات أكبادهن، ودفن عجول لأجساد الشهداء.

ولكنّ المشهد الوطني كان يفتقد إلى هوية تجمع بين الناس، هذه الهوية يُفترضُ أنها صوت الجميع في الوطن ضدّ الاستبداد والقهر المعلن من نظام حكم قال “الأسد أو نحرق البلد”.

الهوية تفرضها حاجات الثورة، فتتبرعم أغنيات ومسرحيات وقصصًا وشعرًا تردده الملايين. كانت البداية من صوت إبراهيم القاشوش، ذلك الصوت الشعبي العفوي، الذي عبّر بلغة كثيفة وبسيطة عن جوهر الثورة السورية، وعن احتجاج الناس ومرارة حياتهم، ولخّص ذلك بعبارة بسيطة حين هتف منشدًا “يلّا ارحل يا بشّار”، وهذا يعني رفض بقاء نظام استبدادي قاهر، وكانت جموع المتظاهرين المحتشدة تهتف خلفه ذات الهتاف.

ولكن حين انهمر الرصاص على رؤوس وأجساد المتظاهرين السلميين، لم يكن هناك متسعٌ للصمت أو لمواربة الحقيقة، وهذا ما دفع الفنان سميح شقير إلى أن يغنّي “يا حيف”، هذه الأغنية لخّصت خذلان أبناء الجلدة الوطنية “جيش النظام” لإخوتهم السوريين الذين يتظاهرون من أجل حرية الشعب.

لقد أطلق جيش النظام الرصاص على المتظاهرين السلميين العُزّل، فسقط بعضُهم شهداء، وهذا ما جعل روح سميح شقير تغنّي: “زخ رصاص على الناس العُزّل يا حيف/ وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف”. هذه الأغنية كانت تعبيرًا كثيفًا عن سلمية الناس المتظاهرين ووحشيّة النظام السوري. هذه المعادلة (شعبٌ ثائر ضدّ نظام قاتل وجائر)، نقلت البلاد إلى عتبة جديدة هي عتبة المواجهة المسلّحة.

لقد آثرت نخب واسعة من المثقفين والفنانين السوريين، أن تبتعد عن معادلة “شعب ثائر ضدّ نظام قاتل جائر”، أي إنها لم تحاول قيادة الحراك الثوري في مراحله الأولى، هذا الابتعاد سمح لقوى ذات أجندات مختلفة ركوب موجة الاحتجاجات، وملء الفراغ، وهو الأمر الذي سمح بعدم المحافظة على سلمية الثورة، أو البحث عن خيار مواجهة مع النظام السوري أقلّ كلفة من الخيار الذي وجدت الثورة نفسها فيه لاحقًا.

غياب نخب المثقفين والفنانين لعب دورًا بإحداث خلل في قدرة الثورة على لمّ الناس حول برنامج سياسي وفكري وتنظيمي واحد، ولعب دورًا في عدم قدرة الثورة على إنتاج تعبيراتها الفنية المختلفة (أغانٍ، مسرح، فنون جماهيرية مختلفة). وقد يكون غياب النخب المثقفة أسهم بدوره بتراجع خطاب الثورة الوطني، الذي يمثّل كلّ المكونات السورية، وهذا ما أضعف النتاج الإبداعي للثورة السورية، تاركًا الباب لثقافة وفن أقلَّ وطنية.

إذن يمكن القول إن ارتداد النخب المثقفة السورية إلى الوراء، أخلّ بمعادلة الصراع مع النظام، وهو صراع يأتي نتيجة للتطور التاريخي المتمثّل بعجز النظام عن الخروج من مأزقه التاريخي، الذي يمكن التعبير عنه، بأنه انسداد تطور طبيعي لقوى المجتمع الدافعة، سببه المعوّق بنية النظام المغلقة.

ارتداد النخب المثقفة والفنية السورية بكلّ تلويناتها عن لعب دور في الثورة، جعل الثورة في طورها المسلح، وفي طورها الفصائلي الإسلامي، تتراجع إلى مستوى خطاب غير جامع وطنيًا، نتيجة طفو شعارات بناء دولة إسلامية، هذه الشعارات منعت النخب المثقفة والفنية من الانخراط في هذا الاتجاه، وبالتالي خسرت الثورة أجنحتها الجامعة وطنيًا، وفقدت بناء إرثها الثقافي والفني الإبداعي، الذي يعبّر عن هويتها الحقيقية.

ولكن هل يمكن ترميم هذه الحالة بعد مرور أعوام من الصراع في البلاد؟ ونهوض النخب المثقفة للعب دور مرمم على هذا الصعيد؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عنه بعد أن تتضح اتجاهات الحلّ السياسي في سوريا، وشكل نظام الحكم الجديد، الذي سيكون مبدئيًا حصيلة توازنات بين قوى الصراع في سوريا وعليها.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي