نبيل محمد
قد يكون من الجيد أن فصامًا كاملًا بين جزء كبير من الجمهور السوري وتيار من الفنانين السوريين بات واقعًا ملموسًا، لدرجة أن هذا الجمهور نسي بشكل شبه كلي فنانين كانوا أسماء كبيرة إلى حد ما في سوريا، ثم خلعهم الجمهور من ذاكرته بسبب مواقفهم السياسية، ليشكل ذلك من حيث يدرك هؤلاء الفنانون خسارة كبيرة، ليبدو استذكار أولئك الفنانين قائمًا على حدث ما يتعرضون له، ويعودون من خلاله إلى البروز، فيعيد الجمهور إسقاطهم من الذاكرة، التي كلما امتد بها الزمن راكمت النسيان كعقوبة لا يرحم بها الجمهور فنانًا إن تمسك بها.
قبل أيام سقطت الفنانة السورية ميادة الحناوي على مسرح تونسي خلال إحيائها حفلًا غنائيًا، في زلة قدم وفق ما بدا من تصريحاتها، الزلّة التي لم تثق بها وسائل الإعلام، مؤكدةً أن تغيرًا كبيرًا بدا على شكل الفنانة، وصوتها، يوحي بتراجعها الصحي، الذي من المفترض بمكان أن يكون مبررًا لحصولها على دعم جمهورها، وتعاطفه، كوفاء لمسيرتها الفنية، سواء كان الجمهور من عشاقها، أو على الأقل ممن يحترمون حضورها على ساحة غنائية كانت في فترة من الفترات قاحلة، لم يبرز فيها إلا قلة بفعل ضعف المنتج الفني السوري ككل في ظل نظام شمولي لم يتح لأحد البروز إلا ضمن مقاييسه.
تعج صفحات السوشيال ميديا اليوم بجمل أطلقتها الحناوي دعمًا لرأس النظام السوري، وانتقامًا من فنانين عارضوا النظام، بل وبأغانٍ بالغت فيها الفنانة بدعم كل من ساند النظام، لتصل بها الجرأة إلى أن تغني أغنية للحشد الشعبي، الحشد الذي وإن أعلن أي فنان سوري كان أم غير سوري دعمه للنظام السوري، فلن يجرؤ على الغناء له، لأسباب لا تتعلق فقط بكونه قوة دعمت أنظمة ديكتاتورية فقط، بل بكونه ميليشيا عاثت خرابًا في بلد عربي بدعوى محاربة الإرهاب، بل ولاسمه أيضًا ثقل لغوي غير طيّع على لغنة غنائية، إلا أن ما لا يستساغ نطقه يصبح ممكنًا لفنانة مثل ميادة الحناوي كأن تصنع أغنية تتضمن كلمة الحشد.. أي فن هذا!
هكذا إن مرضت ميادة يستذكرها الجمهور، وكذا إن كُرّم جورج وسوف من القيادة السياسية في سوريا، وإن اعتذرت أمل عرفة عن مقطع تمثيلي، أو أبدى عابد فهد موقفًا جعل الشاشات تتابعه. حضورهم دائمًا هو حضور الشخصية العامة التي خذلت جمهورها، وضربته في مقتل، هم رسوم كاريكاتير، وأصوات تتعالى بتأييد الجريمة في لقاء تلفزيوني هنا، أو في مقطع غنائي أو تمثيلي يشكل الورقة التي سقطوا بها جماهيريًا لا أكثر، كل تاريخهم السابق بالنسبة لقطاع كبير من الجمهور هو مشطوب ملغى غير ظاهر، وليس لأحد ذاكرة تسعفه في تذكّر فنهم، فقد انمحى كليًا، وأُسقط بعد محاكمة أخلاقية أخضعهم الجمهور لها، فبات ظهورهم اللاحق لأي حدث يتعلق بهم اليوم، مشابهًا لظهور سهيل الحسن في إحدى نظرياته، أو حسن نصرالله في أحد خطاباته، للجمهور قدرة كبيرة على الرؤية بعين لا تحتمل التمييز بين هذا وذاك، سواء من حمل سلاحًا أو ارتكب جريمة، أو من دافع عن حامل السلاح ذاك وأيد جريمته.
لم تعد الجغرافيا تجمع بشكل واضح الجمهور السوري، خاصة ذاك القطاع الآنف الذكر، الذي بات إما لاجئًا في أصقاع الأرض، أو ما زال يحاول الهروب من قدر الحرب وطغيانها، أو يعيش في مناطق لم تطلها الحرب بعد ويلتزم على الأقل الصمت حفاظًا على بابه من طرقة مخبر، لكن لهذا الجمهور محكمته وحضوره، ولدى ذاكرته القدرة على كتابة التاريخ على طريقته، تاركًا لحيز آخر من الجمهور التغني وكتابة تاريخ مختلف. ولئن كتب التاريخ بقلمين فلن يعفي ذلك من طُلب منه في يوم من الأيام أن يقول كلمة حق فارتدّ عنها. سيخسر ذاك على الأقل قدسية ما، تتمثّل في التعاطف معه إن مرض أو مات.