عتيق – حُمص
أستمع اليوم إلى النقاشات الدائرة من حولي، عن الثورة السورية، المواضيع كثيرة، ولكن هناك سمة عامة أراها تبرز في معظم الأحيان، إنه الإحباط، التشاؤم، والشعور بعدم نجاعة الثورة وقدسيتها، واكتشاف واقعٍ ثوري ليس بذات الورديّة التي كنا نؤمن بها، أو نرجوها.
وهذا الإحباط هو ما يستحق منّا أن نُسقطه أيضًا، من جملة الأشياء الكثيرة التي علينا إسقاطها، بدءًا من نظام الحكم وطبقة المثقفين المؤيدة للنظام ثم الساكتة، فالمعارضة، فالدول العربية والإسلامية … يستحقُ الإحباطُ وجلدُ الذات، أن نضيفه إلى قائمة ما يجب أن نسقطه.
حدثني صديقي مؤخرًا عن الكتائب الجديدة التي تبرز كل حين، بضعة من الأفراد يشكلّون كتيبة خاصةً بهم، لا يتبعون شورًا ولا رأيًا، إلا رأي قائدهم. جلس يشكو بمرارة واقع التشرذم والتفكك الذي يعاني منه الجيش الحر، علاوةً على انعدام التنظيم والتنسيق بين الكتائب المقاتلة في المدينة الواحدة.
أخبرته قائلًا: لكن ما الجديد في هذا؟ هذا الواقع ليس وليد اليوم، ولا البارحة، ولا وليد الثورة ولا حتى قبلها، هذا هو الواقع العربي المر جدًا منذ عشرات وعشرات السنين (إن لم نقل مئات!). هذه المشكلات التي نعاني منها اليوم، مثل فشلنا في العمل الجماعي، وحب الظهور والرياسة، وتضخم الأنا، والتهور دون تفكير مسبق، وفشل العمل السياسي اللاعنفي، هذه هي ذاتها أمراض الشعوب العربيّة منذ أزمان طويلة، فما الجديد؟
منذ أن وعينا، ونحن نتحدث عن تخلفنا وجهلنا وأميتنا وحبنا للرياسة ووو… فلماذا نتحدث عن هذه المشاكل اليوم وكأنها وليدة الثورة، وكأن الثورة هي من سببت كل هذا التخلف العربي!
الثورة فقط كعمل جماعي كبير، أبرزت هذه العيوب بحجمها الحقيقي، لكنها لم تخلق شيئًا جديدًا.
وهذه الأمراض التي نتحدث عنها، هي ذاتها التي يحاول المثقفون والدعاة والمصلحون والمفكرون ارتقاء الأمة من واقعها، وإيجاد الظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية لإصلاحها.
كيف تمكنّا من أن ننسى بعض هذه الحقيقة؟!
كيف استطعنا مع بداية الثورة أن نمحو الصورة التي نعرفها عن أنفسنا كشعوب عربيّة من مخليتنا، واستبدلناها بصورة رومانسية وردية، وظننا بأننا تجاوزنا كل ركام الماضي، وها نحن نمضي بخطى واثقة نحو تحقيق واقع جديد مختلف كليًا عما عهدناه مسبقًا.
كيف لم نتوقع بأن كل ما نعرفه عن أنفسنا كشعوب عربية مصابة بالجهل والتخلف والاستبداد سينعكس في ثورتنا.
الإحباط الحاصل اليوم ناجم عن تناسينا أن ما نراه على الشاشات ونسمعه ونعاينه على أرض الواقع هو امتداد لما كان موجودًا منذ سنوات طويلة، وأن معالجته أيضًا لن يكفيها سنة أو سنتان أو ثلاث. لقد كان هناك من يعمل أيضًا على إصلاح هذا الخلل في بنية المجتمع منذ ثلاثين وأربعين سنة، فأمراض الشعوب لا تعالجها الثورة، بل تبرزها فقط ليتولى المصلحون والدعاة والمفكرون مسؤولية ذلك.
حتى هذا الإحباط، والتشاؤم والسلبية التي أتحدث عنها هنا ليست وليدة الثورة أو واقعها، بل هي سمة عامة في مجتمعنا العربي منذ أن وعي على ذاته.
وهذا ينطبق أيضًا على «المأساة الإنسانية» هنا. هذه المأساة قديمة، قبل الثورة كان هناك 60% من الشعب السوري تحت خط الفقر، إضافة إلى معدلات البطالة والعنوسة والهجرة… دعونا نأخذ الأمور ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي الصحيح لنرى أن الثورة أفادت أكثر بكثير مما أضرت، وراكمت من الوعي والعمل والتكاتف أكثر بكثير مما فرقت، ولننتبه إلى أن أمراضنا قديمة متراكمة، وأن علاجها لا يمكن أن يكون «مستعجلًا».