عنب بلدي – يامن مغربي
كان ينظر إلى الفن التشكيلي في سوريا، ولعقود من الزمن، أنه فن نخبوي لا يهم سوى الطبقة المخملية في المجتمع، وغالبًا ما كانت المعارض الفنية محصورة بعدد قليل ومحدد من شرائح المجتمع السوري.
بعد انطلاق الثورة السورية في آذار من عام 2011، تغيرت كثير من المفاهيم حيال النظرة للفنون عامة، والفن التشكيلي خاصة، من خلال تفاعل الفنانين التشكيليين مع الثورة وتعبيرهم عنها بلوحاتهم التي واكبت أحداث الثورة المتتالية من جهة، وإسهام وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار رسومات هؤلاء الفنانين من جهة أخرى، ما جعل الفن الذي ظل حبيس “النخب” الثقافية والطبقة المخملية يتحول شيئًا فشيئًا إلى الشارع، لينطلق من صالات العرض إلى فضاء واسع يشمل ملايين السوريين، حيث يرى فنانون أن هذا مكانه الطبيعي.
وثق الفن التشكيلي السوري منذ عام 2011، عشرات القصص والروايات المأساوية التي عصفت بالسوريين، كقصة الطفل آلان الكردي، الغارق على شواطئ تركيا، والمجازر في مناطق المعارك المحتدمة.
دعم للثورة أم استثمار لها؟
أسهم الفن التشكيلي، منذ عام 2011، في نقل أحداث ووقائع الثورة السورية، ومشاكل المجتمع السوري ومعاناته، سواء في الداخل السوري أو في بلدان اللجوء المحيطة أو في أوروبا.
هذا الإسهام ترى الفنانة التشكيلية، تمارا داغستاني، أنه تجاوز اللوحات القماشية، إلى اللوحات التي رفعها المتظاهرون في الشوارع ورسومات الجرافيتي على الجدران، بحسب تعبيرها، بينما يرى الفنان التشكيلي، حسام علوم، أن الفن التشكيلي أسهم في الثورة السورية، عبر الكثير من الأعمال، التي “نستطيع القول إنها أرّخت للأحداث والقصص الإنسانية مع الشعب السوري بالتزامن مع تطور أحداث الثورة، ونشأت العديد من الأعمال التي حكت عن مطالب ومعاناة الشعب السوري منذ عام 2011 حتى اليوم”.
شكل ذلك نقلة نوعية للفن التشكيلي السوري، من خلال انتشار أعمال العشرات من الفنانين السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا يشير علوم إلى استفادة هذا الفن من الثورة ووسائل التواصل، إذ يقول لعنب بلدي إن الثورة انعكست على كل شيء في سوريا، ومنها طبعًا الفن التشكيلي وفنّانوه، ومن خلالها ارتفع سقف الحريات عند الفنانين وأصبح بإمكانهم طرح كل الأفكار التي تعبر عن مواقفهم ومطالباتهم بحقوقهم والحديث عن مأساتهم دون خوف من الرقيب أو الاعتقال والمحاسبة، والحديث هنا تحديدًا عن الفنانين الذين لجؤوا إلى خارج سوريا. وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في وصول هذه الأعمال للناس بسهولة أكبر، وحفزت إنتاج المزيد من اللوحات التي تعبر عن مشاعرهم إزاء ما يحصل في سوريا منذ أعوام حتى اليوم.
بينما يختلف رأي تمارا داغستاني عن حسام علوم، إذ ترى أن الفن التشكيلي لم يستفد من الثورة، وتقول لعنب بلدي إن “الفن التشكيلي ظهر في سياق الأحداث التي جرت كأداة مثل بقية الأدوات، أما أنه استفاد من الثورة فأرى أنه لم يكن حتى مطروحًا للفائدة”.
الفن التشكيلي يغير المسار
التغييرات التي طرأت على نوعية المواضيع المقدمة في اللوحات الجديدة التي يقدمها الفنانون السوريون، يراها بعضهم مقدمة لتعبير الفن التشكيلي بشكل أكبر عن هموم ومشاكل الناس، وانطلاقه بعيدًا عن النظرة النخبوية التي حوصر فيها لسنوات طويلة، بينما ترى فئة أخرى من الفنانين أن الفن “قادر” ولكن بحدود معينة. وتقول تمارا داغستاني إن الفن التشكيلي “ما زال محصورًا بإطار ضيق ضمن الحالة الاجتماعية العامية”، خاصة أن هذا الفن لم يأخذ حقه في الانتشار، كالموسيقى مثلًا أو المسلسلات التلفزيونية، كما أن ثقافة المتلقي تلعب دورًا كبيرًا في وصول الفن التشكيلي إليه، لذا كان البعض يعتبره نخبويًا في الماضي.
في حين يرى حسام علوم أن الفنانين في المجمل هم من الشعب، وقلائل أولئك الفنانون النخبويون في سوريا، وفي نفس الوقت، الحالة الفنية في سوريا ما كانت مثالية ولا صحية، حتى بعد الثورة، بسبب لجوء بعض الفنانين إلى الخارج، وجودهم في بلاد تحترم الفن أدى إلى ظهور أسماء جديدة حصلت على فرص لإبراز مواهبها واستخدمت أدواتها ومهاراتها بشكل جيد، ما جعلها تثبت أقدامها على الساحة الفنية التشكيلية السورية حتى لو كانت خارج الحدود.
“الفنان ابن هذه المعاناة التي تأكل من روحه وأفكاره، وتغيرت وجهة نظره للحياة والمجتمع، حتى للفرح، وطريقة تعاطيه مع هذه التفاصيل والمواضيع اختلفت بشكل جذري”، يضيف علوم، وهذا ما “انعكس على الأعمال الجديدة من خلال تناولها للواقع الجديد، ما يجعلها أقرب للناس”.
ارتفاع سقف الحرية تزامن مع ابتعاد الفنانين التشكيليين السوريين عن المافيات المتحكمة بالواقع الفني التشكيلي السوري، التي كانت، بحسب علوم، تمنع أي شخص من حضور الورشات الفنية المهمة التي تقام في سوريا، في حال لم يكن الفنان حزبيًا، كما لا يتم دعمه فنيًا بشكل كاف، وبقدر ما كانت نخبوية كانت تتبع للمافيات المتحكمة والتابعة للنظام بطبيعة الحال، بالإضافة إلى المحسوبيات والتبعيات قبل الثورة.
وهذا ما جعل الفن محصورًا بفئة معينة يلامسها، ورغم أهمية المنتج الفني السوري وتصديره إلى بيروت ودبي وغيرها، بقي محصورًا ضمن هذه الفئة، في الوقت الذي يجب عليه أن يكون متاحًا للجميع.
ويشير علوم أيضًا إلى العامل الاقتصادي للشعب السوري، ويقول إن هذا العامل يلعب دورًا كبيرًا، فالحالة الاقتصادية الصعبة التي عاشها الناس في سوريا جعلت تفكيرهم محصورًا بالجري وراء لقمة العيش، وليس هناك وقت لمتابعة اللوحات التشكيلية. تحول الموضوع إلى رفاهية وهذا ما أعطاه شكلًا نخبويًا.
هل تغير واقع الفن التشكيلي حقًا؟
لا يعد هذا السؤال نخبويًا فيما يتصل بواقع الفن التشكيلي السوري اليوم، إذ إن التغييرات باتت ملموسة من ناحية الانتشار، وبقدر ما يختلف حسام علوم وتمارا داغستاني فيما يخص مدى تغير واقع الفن التشكيلي السوري، لكنهما يتفقان على حصول هذا التغيير.
وتقول تمارا داغستاني إنه “من الممكن أن يكون واقع الفن التشكيلي تغير لأن طرح الفن صار بطريقة أسهل أو بطريقة الكاريكاتير، وغالبًا تكون هذه الطرق مفهومة مقارنة بما يرسم في اللوحات التجريدية أو التكعيبية”.
الضريبة التي يدفعها الفنان تنعكس على أعماله، ليحول الألم إلى صورة، بحسب حسام علوم، وهذه الحالة تصل إلى الناس وغيرت كثيرًا من وجهة النظر عن الفنانين التشكيليين وأعمالهم، لأنهم استطاعوا تطويع القسوة التي يمرون بها من خلال أعمالهم وتحويلها إلى لوحات فنية تحاكي آلام الناس ومشاعرهم.