سوريا الجديدة التي تنتج فنًا
نبيل محمد
تتكاثر منصات الإنتاج الفني السوري، أو التي تركز على المحتوى السوري الجديد (المحتوى الذي لا يتبع للنظام السوري)، يومًا بعد يوم، أم تتناقص؟
لا يمكن حسم الإجابة عن هذا السؤال، لأن انطلاق منصات جديدة إلى الحياة يتواكب دائمًا مع موت منصات قديمة، أو جمودها التام، وحفاظها على حساباتها الإلكترونية وجمهورها ريثما تقدر على الانطلاقة مجددًا بتمويل جديد، قاعدة يعرفها كل العاملين في هذا المجال، والذين أول ما يلوح في أفق مشروعاتهم هو توقفها، أو على الأقل ابتلاعها من قبل شركات كبرى إذا كانت تلك المنصات تحقق أثرًا معينًا أو تجمع رقمًا جيدًا من المتابعين، هذا الابتلاع قد يكون أحد أحلام تلك المنصات، فابتلاع هذه المنصة أو تلك يعني نهاية استقلاليتها وبداية تبعيتها، لكنه على الأقل لا يعني بقاء القائمين عليها بلا عمل.
في فوضى المنصات تلك، حية كانت أم ميتة، تابعة أو مستقلة، تحلم بابتلاعها أو بمقدرتها على أن تصبح شركة كبيرة قادرة على الابتلاع، يفتقَد المنتج ذو القيمة الفنية الحقيقية، ويغيب الفن بشكل شبه تام، يتحول المنتج إلى مجموعة سلوكيات تقنية يومية أو أسبوعية أو ربما موسمية يمارسها القائمون عليه، بهدف إحداث التأثير… الذي لا يحدث بشكل واضح.
للعبث يا طلائع، فيلم قصير أنتج مؤخرًا، من الواضح أن القائمين عليه عملوا بشكل جيد على تسويقه، وهو جزء مهم من العمل بالتأكيد، لدرجة أنه يصادفك اليوم في كثير من الصفحات على مختلف المنصات، ويجذبك إليه قبل كل شيء وقته القصير، فلا مغامرة مع الزمن في منتج لمنصة سورية هنا، ولا ندم على ساعة أو ساعتين نتيجة التعرض لمنتج رديء، تكلفة الرداءة هنا -إن حدثت- لن تكون أكثر من 13 دقيقة.
تخوض المغامرة البسيطة بالمشاهدة، وتخرج بنتيجة ما ورد أعلاه، منصات تحاول الإنتاج والاستمرار، تجهد في صناعة ما يضمن بقاءها أو توسعها أو على الأقل عدم موتها، لكنها لا تصنع فنًا.
يحاول الفيلم بأسلوبية مباشرة، رصد قاعة صف سورية تخضع للنظام السوري، أو لحزبه وفق ما يبيّن الفيلم، بأجوائها الإرهابية ضد الطلاب، الذي اعتادوا الخوف والبكاء و”أكل العقوبات”، بينما يأتيهم طالب جديد قد عاد من السويد، كون السويد وفق ما علّمه والده تؤمّن كل متطلبات الحياة إلا الكرامة التي تؤمّنها بلاده الأم. في أول أيامه في هذا الصف يحاول البحث عن تجسيد لمقولة أبيه فلا يجدها: أين الكرامة فيما يحدث حوله من عقوبة جماعية للطلاب لأنهم كسروا صورة الرئيس وهم يلعبون الكرة؟
تجهد الكاميرا في رصد وجوه وعيون الطلاب خلال ضربهم من قبل أساتذتهم، وإشراك بعضهم في تطبيق العقوبة على الآخر، تحاول تحويل وقت العقوبة إلى مشهد ارتكاز في الفيلم، توضع فيه طاقات الممثلين مع المصور والمونتير والمخرج وخبير الإضاءة والصوت، ويستهلك المشهد زمنًا لا بأس فيه من الفيلم، لكنه في النهاية لا يحقق أي فرق عن الكتلة العامة للفيلم، بكلاسيكية الطرح، ومحاولة البناء على الفكرة وإعطائها أبعادًا رمزية متكلفة، دون الحفاظ على بساطتها ومحاولة تقديمها بصورة أقل تركيبية، لتظهر الرموز متكلفة وفجة كمشهد إلصاق صورة بشار الأسد باللاصق الأسود بشكل عشوائي وإعادتها إلى الجدار وهي على شفا النهاية. الكوميديا كذلك لا تمر أبدًا رغم محاولة تركيبها، في جملة يقولها أستاذ المدرسة، مازجًا فيها بين درس القومية وشتائمه للطلاب، فيقول “نستشهد بقول القائد الخالد الحيوان اللي عم يحكي ورا يطلع لعندي”.
لعل “للعبث يا طلائع” في مستوى فني أفضل من عشرات المنتجات السورية التي لا يمكن تتبعها كلها خلال السنوات الأخيرة، هو على الأقل يمكن أن يوضع مكان النقد، أو مكان تصويب خطأ ما، لكن يكاد كل ما ينتج يوحي بأن لا أحد يصنع فنًا، لذا يجب التفكير بالمشكلة الحقيقية، التي قد تكون فهم الفن بشكل جيد قبل ممارسته. وقد تكون سواها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :