شام العلي – دمشق
كعادته، وعلى غرار الأفران كافة في العاصمة دمشق كان فرن «الشيخ سعد»، الذي يقع في إحدى الحارات بين أوتوستراد المزة ومنطقة الشيخ سعد، ممتلئًا بالواقفين المنتظرين خبزهم الموعود، والمصطفين على كوّات ثلاث، الأولى للعساكر تليها كوة للرجال وأخرى للنساء. المشهد ذاته يتكرر منذ سنوات لكن مع بعض التغييرات غير الجوهرية، كالخبز الذي صار أكثر اسمرارًا وأشد قساوة وأغلى سعرًا، والازدحام الذي يزداد كثافة يومًا بعد يوم.
أكثر اتساخًا وأغلى سعرًا
وصل «بشر» إلى المخبز في الساعة الحادية عشرة وقلّب ناظريه في الساحة بحثًا عن النسوة والفتيان الذين رسم الفقر سيماه على وجوههم ليشتري منهم الخبز، حيث تجري العادة في معظم مخابز دمشق أن يقف الأطفال والنساء (والفتيات أحيانًا) على الدور ويشترون الخبز من المخبز ثم يبيعونه لمن يريد في الساحة، خبزٌ أكثر اتساخًا وأغلى سعرًا، ولكنه يوفر عناء الانتظار، وهذا لمن خَبِر معاناة طابور الخبز مكسب عظيم، لكنه لم يجد أيًا منهم، بحث عن خبز يفترش أسطح السيارات فما وجد، ثم عرف فيما بعد أن الشرطة والتموين قامت بتوجيه من وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك (سمير قاضي أمين) بملاحقة بائعي الخبز من المتسولين والأطفال من أجل حماية المستهلك.
مجبر أخاك، وجد بشر نفسه مضطرًا للوقوف على الدور ليأخذ خبزه بيده، سأل نفسه ياترى كيف سيكون مذاق الخبز الذي لم يعانق سطوح السيارات ولم تمسه غير يد الخباز ولم يختلط بالأيدي المتعرقة وغبار الطريق؟
وقف بشر في طابور الرجال، يبدو أنه أوفر حظًا وأقل ازدحامًا من طابور النساء على خلاف عهده قبل عدة سنوات، فالحرب قلبت كثيرًا من الموازين ولم تستثن طوابير الخبز. انتظر بشر نصف ساعة وهو في مكانه، الدور ثابت لا يتحرك، ترى جعجعة ولا ترى طحنًا، أخذ يراقب الخبز وهو ينضج ويمشي على الآلة ثم يتكدس ويوضع في الأكياس، لكن الأكياس تذهب فتملأ الرفوف وتبقى الأيدي الممتدة لتطلب الخبز خالية إلا من بعض «الفراطة» والكثير من الخيبة.
«التموين أوسخ منن»
«لك مشونا ياعمي»، «عنا شغل يا أكابر»، تعالت الأصوات التي لم تعد تطيق الانتظار، ولم تجد من العمال إلا التجاهل جوابًا، الخبز مازال يكمل دورته في رتم رتيب من الآلة إلى الكيس إلى الرف، والمنتظرون يزدادون عددًا والأصوات تتعالى.
«يا أخي مشيني كرمال الله، صرلي ساعة ونص واقفة مشان 10 أرغفة خبز!» لكن لا حياة لمن تنادي، اخترقت امرأة الدور وقالت لأحد الشباب «مشيني بعدين كمل طلبيتك، هلأ بدك تعطيني ربطة يا بشتكي للتموين».
ابتسم الشاب ابتسامة صفراء، ترجمها أحد الواقفين قائلًا «التموين أوسخ منن!» وأضاف أبو أحمد (أستاذ في مدرسة ابتدائية في المزة) «والله الذوق حلو، يا أخونا مشي العالم وبعدين بتعبي الرفوف!».
تململ الشاب وبدأ بتثاقل يوزع الخبز على الناس، وتساءل أبو أحمد «لك من وين بدو يلاقيها هالشعب ولا من وين؟ إذا شقفة عامل مخبز عم يتحكم فيه».
حوارات فلسفية على طابور الخبز (في البدء يكون الخبز .. ثم تأتي الأخلاق)
تدافع الواقفون على الشبابيك وبدأت المشاحنات والفوضى، «احترموا الدور» حاول البعض أن ينظم الصفوف، لكن الكثيرين رفضوا الالتزام بالدور متعللين بمشاغلهم، فقال أحد العساكر «إذا دور خبز مالكن عرفانين تلتزموا فيه، أيني حريي بدكين ياها؟»، وأضاف بعض الواقفين «أخلاق الشعب بتبين على دور الخبز».
هز كثيرون برؤوسهم، إلا أن أبا أحمد اعترض بمقولة أبي ذر «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الإنس شاهرًا سيفه!»، وأضاف «يا أكابر عيب تسأل عن الدور شعب جوعان ما عم بيلاقي الخبز»، ووافقته امرأة (دكتورة في جامعة دمشق) وصلت لتوها إلى الدور بمقولة لبرتولت بريشت الكاتب الألماني «في البدء يكون الخبز ثم تأتي الأخلاق».
أسد على الأطفال ومع التجار نعامة
مشهد اصطفاف المئات أمام طوابير الخبز، مشهد ألفه السوريون حتى قبل اندلاع الحرب، لعل الحرب زادته ضراوة لكنها لم تلده، مما يضع تبريرات المسؤولين وتصريحاتهم على المحك، فالتعلل بالحرب لم يعد يقنع السوريين، والمؤلم في الأمر أن رجال المخابرات والجيش واللجان الشعبية يمكنهم بسهولة أن يخترقوا الدور ويوقفوا حركة البيع لصالحهم ويأخذوا «بدل الربطة عشرة»، كما تقول أم فارس، التي تشتري الخبز من على الدور بسعر 35 ليرة وتبيعه بـ 70 ليرة، أي سعر الربطة النظامية مضافًا إليه بدل وقت الانتظار.
والأكثر إيلامًا أن الأنظمة والقوانين ليست أكثر من حبر على ورق وجميع الوعود بانفراج أزمة الخبز لا تعدو عن أن تكون كلامًا فارغًا، والقوانين التي تطبق تستثني الشبيحة و»جماعة فلان وعلان»، وتغض الطرف عن التجار المحتكرين الذين يتحملون قسطًا كبيرًا من مسؤولية الأزمة، ولا تلاحق إلا النسوة والصبية الصغار.
السخرية مقابل السخرية
في مقابلة التصريحات التي تتلو القرارات الحكومية التي تفوقها سخرية ومضاضة، مثل التصريح الحكومي الذي عزا سبب رفع سعر «ربطة الخبز» إلى «الهدر» وأزمة الخبز إلى أن المسلحين يرمون بالخبز في مصارف الصرف الصحي، وفي مقابلة البؤس والمعاناة كانت السخرية كعادتها سلاح السوريين في معركة البقاء، فعندما وصل الدور إلى «بشر» بعد ساعتين من النضال في ساحات الوغى، بدأ بالتصفيق والهتاف وأخذ بين ذراعيه ربطة الخبز واحتضنها، وبدأ الناس يهنئونه ويباركون له ثم اتصل لفوره بأمه والفرحة تغمره «زلغطي يا أم بشر.. جبتلك العروس»، فأجابته «لكان يامو .. ما بجيبها غير رجالها!».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :