وُلِد في سوريا.. قصة اللجوء كما عاشها الأطفال
نبيل محمد
قليلة هي الكاميرات التي صبرت لتخوض مشوار اللاجئين السوريين الطويل كاملًا من السواحل اليونانية إلى البلدان المضيفة لهم، فهذا الطريق الذي طالما تناقلت صوره كاميرات الصحافة العادية والدرون والعدسات المصادفة لهم، وكاميرات هواتفهم ذاتها، ليس مجرد ممر يعبره الناجون من البحر إلى البر، بل هي رحلة معاناة لا يمكن رصدها بدقة دون أن تمشي الكاميرا معهم وتخوض تجربتهم، وتغوض في التفاصيل التي لا ترصدها تلك الكاميرات التي التقطتهم عن بعد، وهذا تمامًا ما فعله المخرج الوثائقي الإيطالي هيرنان زين في فيلم “ولد في سوريا”، الذي عرض مؤخرًا في مهرجان جيفوني السينمائي الدولي في دورته الـ 49.
سبعة أطفال ممتلئون بذاكرة لا تغيب عن ألسنتهم طوال الرحلة الممتدة لأشهر، هي الذاكرة الوحيدة القادرة على دفعهم إلى مزيد من الصبر، وهي التي جعلت أعمارهم الافتراضية مختلفة كليًا عن عمرهم الحقيقي، وجعلتهم يعون تمامًا أنهم يقطعون آلاف الكيلومترات للحفاظ على حقهم الأول كبشر، حقهم في الحياة، تلك الذاكرة كانت الأكثر حضورًا على ألسنة هؤلاء الأطفال الذين مشوا مع أهاليهم وأقاربهم في ركب اللاجئين من اليونان إلى ألمانيا وبلجيكا.
لن تستطيع الكاميرا أن تحيد عن وجوه الأطفال هنا، خاصة بعد ساعات المشي المتعبة، أصابعهم التي ترتجف من البرد الشديد، عيونهم التي يكاد دمعها يتجمد، أناملهم التي تعرضت لجروح من الطريق الطويل، أجسادهم الباحثة عن أي أمان. تتيح هذه الوجوه للكاميرا أن تقدم قصة الفيلم بكامله ببساطة وصدق وبراءة، مترافقة مع حديث لهؤلاء الأطفال كل على حدة، وهم أبناء التجارب المتشابهة حد التطابق في بعض تجلياتها، هربوا من القصف والحصار والموت في الجحيم السوري، إلى تركيا، ثم عبر قوارب مطاطية إلى اليونان، ثم إلى بلدان شرق أوروبا لتكون التجربة في أقسى مراحلها في مواجهة سوء المعاملة وضعف الاهتمام من قبل سلطات تلك الدول وشرطتها كالمجر وكرواتيا وصربيا، ثم إلى ألمانيا وبلجيكا اللتين استضافتا هذه الدفعة من اللاجئين حينها.
استمرت الكاميرا بمتابعة تجارب أولئك الأطفال مع عائلاتهم، ملاحقة إياهم في مدارسهم وساحات اللعب، وراصدة علاقاتهم مع لاجئين آخرين، ومع أطفال من المجتمعات المضيفة، تراقب دموعهم في اتصالاتهم المصورة مع أهاليهم الذين لم يتم لم شمل بعضهم بعد، أما المصاب منهم فكان أمام تجربة جديدة هي الأقسى في المرحلة العلاجية التي ستواجه التشوهات التي تعرض لها جراء إصابته بالشظايا في سوريا.
أصوات سياسيين أوروبيين تتعالى تارة فأخرى خلال رحلة الفيلم المواكبة للاجئين، أصوات ينتظرها هؤلاء اللاجئون لعلهم يسمعون عن بلد ما سيفتح الأبواب بعد أن رأى ما رآه من حياتهم القاسية في المخيمات بين دولة وأخرى… وهو بالفعل ما حدث حينما أعلنت ميركل استقبال اللاجئين في ألمانيا.
يصر الفيلم على تكرار مقولة أن مشوار اللاجئين لم يختتم، وأن عبور البحر ليس النقطة الأصعب فيه، تلك المقولة التي قالها الطفل مروان، الطفل الذي يفرد له الفيلم المساحة الأكبر للحديث عن تجربته، وهو بالفعل ما يبدو في التفاصيل التي ينقلها الفيلم، فمن البحر إلى مواجهة الشرطة الحدودية بين عدد من الدول، إلى الإقامة في مخيمات متنقله لأشهر، ومن تلك التجربة إلى معضلة الحصول على أوراق وأماكن سكن مناسبة للأسر اللاجئة، ومن ثم محاولة لم شمل من بقي في سوريا أو تركيا أو لبنان، تلك المعاملة التي يبدو أن نجاحها ليس مضمونًا لدى الجميع… لذا فقصة كفاح هؤلاء اللاجئين للحصول على حق الحياة لا تنتهي بعبورهم البحر، بل وربما هذا العبور كما قال مروان ليس الأصعب في هذه التجربة، العبور يعني شيئًا واحدًا أن العابرين لم يموتوا غرقًا. كان حظهم جيدًا في عدم الغرق، حظ لم ينله جميع الراغبين بالعبور.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :