"والله هاد تهجير.. يا جماعة تعبنا، تعبنا، تعبنا، تعبنا"
أيوب.. سوري صابر في اسطنبول
منصور العمري
لا تزال الحملة المستعرة ضد اللاجئين السوريين (الذين تسميهم تركيا ضيوفًا) مستمرة في اسطنبول، فمن ترحيل إلى سوريا– وأرجو ألا نسمع خبر مقتل أحدهم هناك- إلى تهجير السوريين من اسطنبول بعد أن سمحت الدولة لهم بتأسيس حياتهم فيها ووضع كل ما لديهم من مقدرات مادية ونفسية في هذه المدينة الحيوية.
نشرت زمان الوصل فيديو للاجئ سوري يجلس على أرض كرتونية شاكيًا حاله، ومن حوله ماكينات حقن ونفخ البلاستيك، بأصواتها التي تصمّ الآذان، وتقاطع شكواه.
غابت عن الصورة في الفيديو ظروف العمل القاسية التي يعانيها أيضًا هذا العامل في عمله، والتي من المفترض أن تمنعها تركيا الموقعة على “اتفاقية منظمة العمل الدولية بشان الإطار الترويجي للسلامة والصحة المهنيتين“. هذه الظروف اللاإنسانية هي التي وفرت لهذا اللاجئ فرصة العمل، وعرضته للاستغلال، بما لا يقبله المواطن التركي نفسه، فرائحة البلاستيك وبخاره السام، وحرارة المكان والماكينات، وتأثير ارتجاجها وصخبها على الدماغ، وحرارة القطع البلاستيكية التي يصلها ببعضها بيديه العاريتين لم تظهر في الصورة. العمل لساعات طويلة، وبلا اتخاذ الاحتياطات الواجبة، سيؤذي جسد هذا العامل وروحه، ويعرضه لأمراض أكثرها احتمالًا السرطان، فقط من أجل كسب قوته، رغم ذلك لم يرضَ هذا العالم عن هذا السوري.
أعادني هذا المشهد سنوات، حين كنت أدرس الأدب الإنجليزي بجامعة دمشق، وأعمل بمعمل بلاستيك في بيت سحم بريف دمشق، في ظروف مشابهة حتى أستطيع كسب معيشتي ومتابعة دراستي. لم يكن صاحب المعمل يريد مني سوى تقديم أكبر كمية ممكنة من الإنتاج، ولأني كنت مضطرًا قدمت له ما يريد، دون أي اكتراث بصحتي الجسدية.
هذا العامل الذي لم نعرف اسمه حتى، كاد أن يبكي متحدثًا باسم السوريين، عن تعبه وتعبهم من الاستهداف في كل مكان، متغاضيًا ربما عن ظروف عمله القاتلة، لأنه يريد فقط كسب عيشه بشرف مهما كان ذلك صعبًا. سأسميه أيوب، هذا السوري المهجر من حمص إلى إدلب ثم إلى تركيا، فاسطنبول، وسيهجّر إلى بورصة. في كل مكان بدأ من الصفر ثم دمروا كل شي بناه، لكنه مستمر في إبلاغ العالم أجمع أنه قادر على احتمال الظلم بصبر أيوب، ولن ينجر إلى ما قد يريده بعضهم إلى الطريق الخطأ، وما قد تؤدي إليه ملاحقة السوريين في كل مكان ومنعهم من كسب قوتهم.
يتساءل أيوب بلهجة حمصية محببة وكلمات تدمي القلب:
بس إنو السوري شو عامل؟ شو ذنبو السوري حتى هيك يصير فيه؟ وين ما رحنا العالم لاحقتنا، هون، بلبنان، بالأردن، بكل محل..
بدك ترجع عبورصة، بدك تدفع تأمين للبيت وكومسيون للمكتب، وتشنطط وتهجير.. تهجرنا من حمص عإدلب، ومن إدلب عتركيا، والله هاد تهجير. بشتغل 14 ساعة بس مشان أكل وشرب. قال بدك تطلع عبورصة.. والله العظيم أجرة طريق ما في. مشان الله عيفونا بحالنا.. يا جماعة تعبنا، والله العظيم تعبنا، والله العظيم تعبنا، تعبنا، تعبنا تعبنا، والله العظيم تعبنا.
أخبرني بسام الأحمد، مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة“، منذ أيام، أنه حصل على وعود من منظمات سورية أخرى خارج تركيا بتسليط الضوء على أحوال السوريين فيها، وشرح لي كيف تم التوافق شفهيًا على ضرورة أن تتكاتف هذه المنظمات، لتجاوز مسألة الرقابة الذاتية التي تفرضها الدولة المستضيفة، وتأثير ذلك على أدائها الحيادي.
ربما الإعلام السوري في تركيا لديه مخاوف ومحاذير محددة، لكن ما الذي يمنع بقية الإعلام السوري والمنظمات السورية خارج تركيا، من مناصرة من يمثلونهم، ومن إيصال أصواتهم ومعاناتهم التفصيلية للعالم؟
أتحدث هنا عن واجب السوريين الناشطين أفرادًا ومنظمات، كل في مجال عمله الحقوقي أو الإعلامي، في إيصال رسائل اللاجئين ومعاناتهم، واتخاذ خطوات جدية وعملية في التعاون على هذا الصعيد المهم الذي يعتبر أحد الحلول المبتكرة لمشكلة الرقابة الذاتية لكل في دولته المستضيفة، والتغلب عليها.
للإعلام وظيفة مهمة في تسليط الضوء على المآسي قبل حدوثها، وعدم الصمت انتظارًا لها.
يرصد الإعلام آراء خبراء المناخ مثلًا ويتابع المستجدات، إلى أن يعلن الخبراء عن بدء تشكل عاصفة أو إعصار على بعد مئات أو آلاف الأميال، ليبدأ الإعلام متابعة هذه الكارثة المقبلة المتوقعة.
قد تحيد العاصفة عن المناطق المتوقعة، ولكن هذا لا يعني أن متابعة وتوقعات الإعلام ذهبت هباء، بل كانت جزءًا من عملهم وواجبهم في توعية الناس. بشكل مطابق، مع بدء شرارات الاستخدام السياسي لورقة اللاجئين من قبل قيادات ومرشحي أحزاب المعارضة التركية، وانتشار أعمدة الرأي المناهضة للسوريين في الصحافة التركية، كان من المتوقع تصاعد تحريض المواطنين الأتراك ضد السوريين، ومن ثم وقعت سلسلة من الحوادث الجنائية ضد سوريين في عدة مناطق باسطنبول. وصل الأمر إلى مسير مواطنين أتراك إلى مخفر تركي وتظاهرهم مهددين الشرطة بـ “القيام بواجبها” وإلا! ثم تسلم رئيس بلدية اسطنبول الجديد الذي وصل وفي أحد وعوده إعادة السوريين، وحل المشكلة السورية. بالإضافة إلى دخول الحكومة التركية على خط استخدام ورقة اللاجئين في الحفاظ على القاعدة الشعبية.
يستضيف الإعلام التركي سوريين “جيدين” يطالبون بتنفيذ القوانين، ولا يقدم تفاصيل معاناة السوريين الآخرين.
لم يصمت الإعلام الغربي إزاء ما يجري للسوريين اليوم، وخاصة في سياق سياسي مناهض للحكومة التركية التي “تتجه إلى الديكتاتورية”، ولكنه لم يتحدث قبل ذلك عن الحملات والأحداث التي قادت إلى هذه المأساة، وحتى اليوم لا يتحدث عن الأسباب بل يكتفي بالحديث عن النتائج.
جميع سياسات الاتحاد الأوروبي ودوله تصب في وقف تدفق اللاجئين إلى أراضيها، والعمل على إنهاء الحرب في سوريا بأي ثمن لتعيد اللاجئين، حتى الإعلام الغربي بمجمله لا يتعامل مع قضية اللاجئين السوريين عمومًا من وجهة نظرهم بل من وجهة نظره الخاصة.
أدعوكم أيها السوريون إلى الحديث عن ظروفكم، ومعاناتكم بالتفصيل، تحدثوا من المعامل والأفران والأراضي الزراعية. اجعلوا عائلاتكم، أمهاتكم، زوجاتكم، أطفالكم يتحدثون عن معاناتهم بغيابكم، كي ترى الدولة والشعب التركيين ما تتسبب به هذه القوانين والتعليمات القاسية، غير الإنسانية، وكي تصل الصورة إلى المنظمات والحكومات الغربية.
هناك من يقول إن دولًا أوروبية تفرض قيودًا مماثلة على عمل وسكن وتنقل اللاجئين وطالبي اللجوء. نعم هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أن هذه القيود مقبولة إنسانيًا، ولا يعني أن كل ما تفعله الدول الديمقراطية هو المعيار الأخلاقي أو البوصلة الدقيقة، ويجب القياس عليها! ما يجري اليوم في اليونان من حجز وتنكيل باللاجئين السوريين وغيرهم هو أبسط الأمثلة على الجحيم الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على الفارين من الموت. المعيار الأخلاقي هو الإنسان، هو اللاجئ، هو المظلوم، ومعاناته وعائلته، وتعرضه للظروف القاسية، وكل ما سواه هو تجميل للحقيقة والتفاف حولها وأشياء أخرى.
لم يتحدث الإعلام الغربي عن الدور الأساسي الذي لعبته المعارضة التركية في المقدمات التي قادت إلى أحداث عنف ضد السورين، وتنفيذ الإجراءات المهملة من قبل الحكومة التركية، وإلى وضع تعليمات جديدة.
استمر التوظيف السياسي لمأساة السوريين حتى بعد انتهاء الحملة الانتخابية وبدء حملة الملاحقة، إذ يقول رئيس بلدية اسطنبول الجديد، أكرم إمام أوغلو، إن ما تقوم به السلطات التركية تجاه اللاجئين السوريين كان يجب أن يتخذ من قبل. وأكد إمام أوغلو، خلال مقابلة مع تلفزيون دويتشه فيله التركي في 29 من تموز، أن “التدابير التي تتخذها ولاية اسطنبول تجاه المواطنين السوريين تدل على أن حزب العدالة والتنمية أدار قضية اللاجئين السوريين بشكل خاطئ”. وتساءل رئيس بلدية اسطنبول، المنتخب عن حزب “الشعب الجمهوري”، “لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ لماذا لم تُتخذ هذه الإجراءات في وقتها؟ كان يجب أن تُتخذ هذه الخطوات“. إمام أوغلو نفسه الذي وعد ناخبيه الأتراك بحل مشكلة السوريين وإعادتهم إلى سوريا. بالتأكيد لم يكن يقصد إسقاط الأسد، سبب مشكلتهم، فحزبه معروف بموقفه التصالحي مع الأسد، وزيارة أعضاء منه لمقابلة سفاح سوريا في دمشق.
على تركيا بحكومتها ومعارضتها التنبه إلى النتائج الممكنة والآثار السلبية لعمليات الترحيل والملاحقة التي تقوم بها ضد السوريين في اسطنبول، واحترام حقوق البشر ومنع الكارثة المقبلة التي ستصيب كل سوري مستقر في اسطنبول بفقدانه عمله ورزقه ورزق عائلته، وتدمير كل ما بناه في هذه المدينة الحيوية، وغياب فرصه في أي مكان آخر سيتم نقله إليه. يجب وقف تنفيذ “إنذار 20 آب”، ودراسة وضع السوريين بشكل عقلاني قبل فرض أي إجراءات أحادية الجانب من شأنها تصعيد المشاكل في كلا الجانبين وتصديرها إلى مناطق تركية أخرى بدلًا من حلها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :