عمر الحريري
في مطلع العام الحالي، قُتل اثنان من قادة فصائل المعارضة سابقًا بشكل مجهول في ريف درعا الغربي، لم يتأخر الكثير ممن كان يعرف القتيلين أو عمل معهما عن نعيهما والاستدلال بالكثير من الشواهد من تاريخهما في الثورة السورية. شخصيًا كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لي، فكلا القتيلين انضما لفرع الأمن العسكري التابع للنظام بعد اتفاقية “التسوية”، لا بل إن بعض الروايات المتقاطعة تحدثت أن اغتيالهما مرتبط بصفقة فاشلة لبيع الأسلحة. وجدت في هذه الحالة مشهدًا غريبًا لم نعتده سابقًا في الثورة، عندما ينعى مؤيدوها قتيلًا من النظام.
الفوضى الأمنية تفشت في درعا بشكل أكبر، وعمليات الاغتيال بدأت تطال، بعدد ليس قليلًا منها، قادة الفصائل سابقًا وتحديدًا أولئك الذين التحقوا بتشكيلات النظام بعد عملية “التسوية”. وكما تكررت الاغتيالات أيضًا تكرر أن ينعى مؤيدو الثورة هؤلاء القتلى، ولعل حالة الجدل التي أثارها اغتيال القيادي السابق في “فرقة 18 آذار” التابعة للمعارضة، فراس المسالمة، قبل عدة أيام، لن تكون الأخيرة، فهو انضم للفرقة الرابعة التابعة لقوات النظام بعد اتفاقية “التسوية”.
من المستغرب جدًا ظهور هذه الحالة التي تبدو جديدة كليًا، إذ لم نسمع يومًا بأحد مؤيدي النظام ينعى ضابطًا منشقًا على سبيل المثال، فكيف ينعى مؤيدو الثورة منشقًا عنها، إن صح التعبير، لصالح النظام؟ الأمر الذي دفع بعض الأصدقاء ممن “مارسوا” هذه الحالة إلى الحديث معي وتبرير وجهة نظرهم.
بعد الكثير من النقاش والأخذ والرد، أستطيع أن ألخص وجهة نظر هؤلاء ببعض الأفكار.
منهم من اختلط عليه الحابل بالنابل وأصبح ضائعًا بكل معنى الكلمة. الطريقة التي سيطر فيها النظام على درعا ودور قادة الفصائل في ذلك، جعلت البعض يفقد الثقة بالجميع ولم يعد قادرًا على الانحياز لأي طرف مسلح في درعا، لذلك قرر الانحياز إلى الأشخاص بغض النظر عن الطرف الذي يوجدون فيه، لذلك هو يمدح بعض القادة الذين كان يعرفهم ويثق بهم، وإن انضموا إلى النظام لاحقًا، وهو ذاته يشتم بعض القادة الآخرين، ليس لأي سبب إلا أنه لم يكن يعرفهم سابقًا.
هناك من وجد أفرادًا من عائلته وأصدقائه وأبناء بلدته في صفوف النظام فجأة، فغلبت عليه نزعته العائلية والعشائرية والمناطقية على حساب نزعته الثورية، فقرر أن يجد لهؤلاء المبررات تفاديًا للعداء معهم. بعضهم أبدع في التبريرات حتى إن من يبرر لهم لا يعرفون بها.
هناك أيضًا من المدافعين عن هذه النظرية، من ينطلق من فكرة أن أولئك الذين قُتلوا في درعا هم التحقوا بالنظام قسرًا مع انعدام الخيارات المتاحة، وبشرط عدم مشاركتهم في أي معارك خارجها، مع التذكير المستمر بأنهم أسهموا في قطع الطريق على التمدد الإيراني المفترض في جنوب سوريا.
رغم إيمان هذا الفريق بصحة وجهة نظره، تتناقض في الواقع مع الدوافع نفسها التي دفعته للإيمان بها، فانضمام هؤلاء العناصر إلى النظام لم يسهم في إيقاف التمدد الإيراني أو منع ارتكاب النظام للانتهاكات، الاعتقالات وعمليات التصفية لم تتوقف، كما أن الفوضى الأمنية مترسخة في الكثير من المناطق.
رغم هذا الجدل، لكن في الواقع لم يصل إلى مستوى أن ينعى أحد مؤيدي الثورة قتيلًا للنظام على جبهات شمال سوريا. لم نصل إلى هذا المكان وليس من المنطق أن يصل إليه أحد لأنه سيتحول فورًا إلى مناصر للنظام بقتله وإجرامه. كأنها حالة من الفصل والتمييز بين هؤلاء الذين التحقوا بالنظام وقُتلوا داخل درعا، وأولئك الذين قُتلوا خارجها. هنا بالضبط يجب أن نسأل عن سبب وجود هذا التمييز ومن أين أتت هذه المعادلة، على الرغم أن كلا القتيلين من المفترض أنهما جنديان لدى النظام لا فرق بينهما إلا أين قُتلا.
هي فوضى بكل معنى الكلمة، فوضى على المستوى العسكري والمدني والإعلامي والفكري، اتفاقية “التسوية” التي تعد الأيام الأخيرة من عامها الأول، بعثرت الكثير من المفاهيم والمبادئ الثورية. نحن اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف وإعادة توصيف لما جرى ويجري وإعادة تثبيت مفاهيم الثورة مرة أخرى.
في الواقع النظام هو الرابح من انضمام هؤلاء العناصر إلى صفوفه، سواء قاتلوا فعلًا أم كانوا أرقامًا فقط، قُتلوا أم لم يُقتلوا، فهو يربح الشرخ الذي أحدثه في جسد الثورة عندما ينتصر لنظرية “المصالحة” بانضمام قادة الفصائل إلى قواته، في اعتراف صريح منهم بأحقية النظام على الثورة، كما أنه المنتصر بما بات يملكه من معلومات عن المعارضة خلال السنوات الماضية ممن كان بالأمس قائدًا فيها.