عنب بلدي – يامن مغربي
مع تزايد أهمية الفن السينمائي عالميًا وتعاظم دوره يومًا بعد يوم وتحوله إلى قوة ناعمة بيد الدول، تظهر أصوات تسخف من دور هذا الفن وأهميته، وتتحدث عن انحسار تأثيره في المجتمعات العربية وسط الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، مطالبة بحل المشاكل العالقة بداية قبل الانتقال إلى “رفاهية” الفن.
تلعب السينما والدراما التلفزيونية، دورًا مهمًا في المسيرة الحضارية للدول والمجتمعات، وتستخدم أيضًا سلاحًا للترويج لسياسات الدول والحكومات، وفي رفد خزينة الدولة اقتصاديًا حتى في دول نامية مثل العالم العربي، كمصر وسوريا ولبنان باعتبارها الدول الأكثر إنتاجًا للأعمال الفنية عربيًا.
معادلة صعبة.. إرضاء الجمهور أم تقديم رسائل
باهي مصطفى، مخرج سينمائي مصري، يقول لعنب بلدي إن الفن كأي عنصر في البيئة المحيطة بالإنسان يؤثر ويتأثر به، موضحًا أن “الفنان لديه هاجس بتقديم ما يريده الناس لتحقيق النجاح والجماهيرية، إلا أن واجبه تقديم رسائل وأفكار في وسط ما يريدون، فإن تخلى عن واجبه سيقدم للناس فنًا هابطًا يهبط بمستواهم أكثر، وإن تخلى عن إرضائهم يفشل ويتحول لإعلامي يستخدم لغة خطابية، لذا فالفن الحقيقي المؤثر بالناس هو القادر على تحقيق هذه المعادلة الصعبة”.
وتوجد نظريات كثيرة تتحدث عن دور الفن وأثره النفسي وانعكاسه على الجمهور من خلال المواد التي تظهر على التلفاز، سواء كانت أفلامًا أو برامج أو مسلسلات درامية، بحسب ما يقوله المخرج السينمائي السوري أيهم سلمان، لعنب بلدي، معتبرًا أن هذه المواد التي تشاهد بكثافة وتزرع أفكارًا في عقول الناس ستؤثر حتمًا على المدى الطويل، خاصةً أن السينما والمسلسلات تتعاطى مع عواطف الناس، وتدفعهم لأخذ مواقف من شخصيات معينة، سلبًا أو إيجابًا.
هل فقد الفن دوره حقًا في العالم العربي؟
مع التدهور في المنطقة العربية، يرى متابعون ومشاهدون للفن السابع والشاشة الفضية العربية أنهما ما عادا يملكان نفس التأثير السابق، معتمدين على أن منظومة الصناعة الفنية بحد ذاتها في العالم العربي تعاني من مشاكل كثيرة، سواءً باعتمادها على الشللية الفنية ومنح الأدوار لمن لا يستحق على حساب الأفضل، أو فيما يتعلق بالمواضيع المطروحة وطريقة معالجتها، وحتى فيما يتصل بالشق المؤسساتي.
ويرى باهي مصطفى أن هذا النوع من الفنون فقد دوره بالفعل، خاصة في “عصر العولمة والسماوات المفتوحة التي تجعلك ترى كل ما يقدمه العالم”.
ويقول، “الناس يشاهدون ما يعرض في الخارج، ويقارنونه بالمنتج العربي الموجه سياسيًا وفكريًا لخدمة الأنظمة لتصبح النتيجة المنطقية أن المتفرج سيفضل مشاهدة الفن المستورد أفضل من مشاهدة ما تشكله الدولة لا الفنانون”.
ويختلف أيهم سلمان مع باهي في هذه النقطة من مبدأ آخر، وهو أن الفن عامة والسينما خاصة يحتفظان بعامل التأثير دائمًا بشقيه السلبي والإيجابي، ضاربًا مثالًا بفيلم “بيروت الغربية” الذي أنتج عام 1998، ويصور الانقسام في بيروت بسبب الحرب الأهلية وحقق صدمة على صعيد السينما اللبنانية وفتح الباب أمام الجيل الجديد لمراجعة المواقف في أثناء الحرب.
كيف فقدت السينما دورها في العالم العربي
يرى الاختصاصي النفسي، محمود شخيص، أن التغيرات والحروب في المنطقة لها تأثير كبير على المجتمع، من خلال انشغال الناس الذين خضعوا لهذه التجارب المؤلمة، كاللجوء إلى بلدان أخرى، بتأمين احتياجاتهم الأولية، وهذه عوامل قللت من تأثير الفن على الناس.
لكن شخيص يردف أن الفن لم يفقد دوره في منطقتنا كليًا، بل تراجع قليلًا بحكم الظروف الحالية في المنطقة العربية والإمكانات المتاحة.
بينما يرى المخرج المصري باهي مصطفى أن التغييرات التي شهدها المجتمع العربي في السنوات الأخيرة أدت إلى تراجع الفن عمومًا وليس السينما أو التلفزيون فقط، فالحالة الاقتصادية تلعب دورًا كبيرًا في ظل الأزمات الحالية، وازدادت وحشية الرقابة والأنظمة التي تضيق الخناق على الحركة الفنية أكثر وأكثر في النواحي الفكرية أو في النواحي التنفيذية وعمليات التحضير للأعمال الفنية، بحسب تعبيره.
ويشير المخرج السوري أيهم سلمان إلى ظاهرة غريبة وتحديدًا في الحالة السورية، أشبه بالانفصام، وليست عند المتلقي فقط بل حتى عند صانع الدراما والسينما، إذ نجد الأخير يتكلم عن الحرية والديمقراطية ويسخر من الشبيحة ورجال الأمن، خاصة في الأعمال الكوميدية، لكنه نفسه لديه مواقف تشبيحية في الحياة العملية.
ومن الممكن أن يكون المتلقي نفسه شبيحًا أيضًا، يقبل الرسالة ويعتبر أنها تتحدث عن شخص آخر كليًا، بحسب ما يشير سلمان، معتبرًا أن هذه النماذج موجودة وكثيرة، وربما لم تكن واضحة للغاية قبل الحرب السورية إلا أنها باتت أكثر وضوحًا اليوم.
صناع السينما متمسكون بالتأثير
رغم الإحباطات التي يعيشها صناع السينما والدراما في العالم العربي، يتمسك الفنانون بأن السينما والتلفزيون هو الشيء الوحيد القادر على التغيير في الفترة الحالية. هذا الرأي يمثل شريحة واسعة من الفنانين السوريين أو المصريين، خاصة المستقلين منهم.
ويشير باهي إلى أن الفن قادر على إحداث التغيير بعيدًا عن الاستقطابات السياسية والفكرية التي لا تؤدي إلا لمزيد من المشاحنات، وهذا لا ينفي مرور صناعة السينما والدراما في العالم العربي بأزمة مخيفة، بحسب تعبيره.
ما زال بعض الفنانين والمخرجين والكتاب يجتهدون ويقاومون في ظل الظروف الكارثية التي تعيشها المنطقة، بحسب باهي، ولكن لا توجد مساحة ولا قدرة بعد هذه الثورات والحروب على التفكير والنقاش، وهو ما يختلف معه أيهم سلمان اختلافًا جذريًا، إذ يؤكد أن الفن بالشكل العام بما فيه السينما والدراما قادر على التغيير، اليوم وأمس وغدًا، طالما أنه يغرس أفكارًا ويتناولها بعمق ويعرف كيف يركز على القصة وعناصرها وشخصياتها وتاريخ هذه الشخصيات، إلا أنه يحتاج وقتًا.
عوامل غير سياسية تؤثر أيضًا
يرى باهي مصطفى أن المعتقدات الدينية هي أحد التابوهات الثلاثة التي تحد من حرية الفن في عالمنا العربي كما السياسة، معتبرًا أن المعتقد الديني أشرس من المعتقدات السياسية، والهجوم على أي عمل يمس هذا المعتقد يكون أعنف عادة ويتم رفضه رسميًا وجماهيريًا، حتى لو حصل هذا العمل على النجاح الجماهيري لاحقًا كفيلم “الرسالة” للمخرج السوري مصطفى العقاد.
ويشير أيهم سلمان إلى أن هناك مثالًا حيًا هو السينما الإيرانية، التي قدمت إنجازات مهمة على الأقل في الوقت الحديث عبر مخرجيها الذين قدموا أفلامًا استطاعت فك الارتباط بين السلطة الدينية القائمة والسينما والمجتمع وعكسوا صورة غير معروفة عن المجتمع الإيراني بذكاء بالغ وبطريقة غير مباشرة، تحت المعايير الدينية والسياسية والعادات والتقاليد المجتمعية ولم تؤثر عليهم القيود المفروضة.
استطاع هؤلاء المخرجون التأثير على المجتمع الإيراني وعلى المجتمعات الخارجية، وحتى دول الخليج، فرغم ضعف الإمكانيات الفنية وقلة خبرتهم استطاعوا إنتاج أعمال قادرة على كسر تابوهات مجتمعية، بعكس لبنان مثلًا الذي لا يملك كل هذه القيود، لكنه نجح على صعيد السينما ولم ينجح في الدراما، وإذا قيمنا التجربتين فإن صانع الفيلم الذي فُرضت عليه قيود أكثر نجح أكثر، وبكل الأحوال لا يمكن فصل ذلك عن عراقة الفلسفة وهذه الصناعة الفنية التراكمية.
ويرى سلمان أن المجتمعات التي لا تملك قيودًا ومعوقات لا تملك التحريض على الحركة الإبداعية، وربما تقدم إيران جودة سينمائية لأن هذه القيود مفروضة الآن، فالأزمات والقيود هي ما يحرض على الإبداع أحيانًا، وهذا ما حصل في حرب البلقان، التي صنعت المخرج أمير كوستوريتسا، وفي الحرب الأهلية اللبنانية التي خرجت مخرجين سينمائيين مهمين للغاية.