كتب صلاح صلوحة.. وأرصفته

  • 2019/07/28
  • 12:00 ص

نبيل محمد

لا شك أن مئات المكتبات التي جهد أصحابها بترتيب رفوفها وفهرستها، ونفض غبارها، غابت معالمها تحت جحيم الطائرات، أو أحرقها عابرون بهدف التدفئة، أو لمجرد إحراقها، قلّب ملثمون بكتبها ورموها جانبًا، باعها معفّشون بأسعار تهدف إلى الخلاص منها فقط، مئات آلاف الكتب لاقت هذا المصير، لكن لا شك أن واحدة من أكبرها هي مكتبة الراحل صلاح صلوحة، تلك التي لم يعرف تمامًا مصيرها قبل وفاته، والتي كان مصيرها المجهول والمتوقع بالنسبة له، هو سبب انكساره الأخير كشيخ لوراقي دمشق، الكتبي الأشهر الذي يعرفه كل من اعتاد شراء الكتب من أرصفة دمشق، حيث النادر منها يمكن أن يوجد أو يختبئ تحت غلاف ليس له، بحرفة كتبيين يعرفون تمامًا ما هو النادر، وكيف يتم الحصول عليه.

كشخصية نابغة في رواية تقليدية، تبدو سيرته الأولى، يتلقف الكلمات والصور من أوراق مجلات وكتب، يطلب والده منه جمعها لكي يلف بها الهريسة التي يبيعها على عربة متنقلة، ينقذ ما يجب إنقاذه قبل أن يهترئ في أيدي مشتري الهريسة، ويتخذ لحظات راحة من العمل لكي يقرأ، ثم يبحث عن المزيد، فيجعل من الورق المبعثر كتابًا مكتملًا، يحفظه في مكتبته، ثم يختص بشراء الكتب والمكتبات، ويتنقل من بلد إلى آخر في هذه المهنة، إلا أن تقليدية هذه القصة لم تنتهِ بمستقبل تقليدي بتحول مشروعه إلى مكتبة عامة ضخمة، أو بناء دار نشر كبيرة، أو بأن يصبح شخصية ثقافية يعتني بها محيطها الرسمي والشعبي، لم ينل جائزة على كل فعل كأقل مستقبل تخيلي تقليدي لهذه البداية المريرة، كانت النهاية أكثر مرارة، نهاية لو اتضحت معالمها منذ البداية لكانت عربة الهريسة أكثر جدوى وربما تحولت إلى محل حلويات ضخم كفل له حياة هانئة حتى موته من وجهة نظر براغماتية.. لكن صلوحة الذي غادرنا قبل أيام، انتهت حياته بانكسارات متتالية، من فقدان مكتبته إلى الظروف المادية التي قاساها في آخر سنواته، حيث لم يعد ينفع بيع الكتب على الأرصفة، تلك الكتب غاب جزء كبير من مقتنيها مهاجرين ولاجئين وسجناء وقتلى، وانكفأ الباقون عن شرائها بعد أن أصبح شراء كل شيء سوى الخبز ترفًا، وباتت كتب الإنترنت ملجأ الجميع لسهولة الحصول عليها والتعامل معها ونقلها.. وربما لعشرات الأسباب الأخرى التي عرفها صلوحة، وحاربها واستمر في فرش كتبه على الرصيف.
حضر صلوحة في الظل دائمًا، ظل كان يكتفي به ليستطيع أن يستمر ورّاقًا، في الظل ككاتب، وكممثل، لم يحترف أي شيء من تلك المهن، كان محترفًا لمهنة الوراقة التي خلعها عن نفسه معلنًا موتها كمهنة أمام التكنولوجيا، لتموت مرةً أخرى أيضًا دونما إعلان أمام الحرب، ويستمر بالشعور بموتها يوميًا خلال سنواته الأخيرة، كون يديه لم تتركا الكتب خلالها، وكون مستودع كتبه الأكبر بقي مجهول المصير، ولا بد من مئات السائلين عن كتب كان يملكها في مكتبته الغائبة، فكانت إجابته عليهم ابتسامة، يصعب عليهم فهمها.

تمحو سوريا اليوم ببراعة كائن متوحش تجارب خلاقة فيها، تطمر إنجازهم تحت الركام، تحرق أثرهم، تدفنهم في مقابر متناثرة، تزيل أوراق نعوتهم لتلصق أوراق نعوة سواهم، تخلق في كل يوم حدثًا مروعًا يلغي وطأة حدث وفاتهم الأقل ترويعًا، تقتل طفلًا لتغيب صورة موت مسن، تحرق مدينةً ليبدو حرق مكتبة حدثًا تافهًا، تملأ السجون ليكون مجرد حضور الآخرين خارجها نعمة كريم.. بينما يتمسك من لا يسمحون لذاكرتهم بالاهتراء ببعض تفاصيلها، ليكونوا قادرين على التذكر والنعي، وإدراك قيمة الغائبين، إدراك قد لا يتجاوز منشورًا على صفحاتهم الشخصية، وبكاءهم الفردي في منافيهم.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي