«واعلم بنيّ أن الزواج مرتبط بمفاتيح ثلاث يجب أن تكون في جيبك: بيت وسيارة وعمل خاص؛ من دونها لا تحاول قصد باب إحداهنّ -ناهيك عن قلبها-»، إحدى أكثر النصائح شهرة في حياة الشاب العشريني والثلاثيني أحيانًا، ما جعل الزواج حلمًا بعيد المنال بالنسبة للكثيرين، لينحصر لاحقًا في فئة الأغنياء ومن بعدهم «المحظوظين».
استمر الحال على هذه الشاكلة عقودًا، وكل عقد زمنيّ يزيد الزواج تعقيدًا ويزيد قائمة شروطه تطويرًا وتجديدًا، لتشمل شهر عسل خارج البلاد ومهرًا يضمن حقّها ودراسة الأولاد، وعرسًا عرمرميًا يتحدث عنه العباد، إضافةً إلى المزارع والولائم والسياحة والنوادي، إلى أن تبدّل الحال مع كل ما تبدّل في هذه البلاد.
ثورة على المفاتيح
«الشعب يريد إسقاط النظام»، النداء الأشهر في ثورات الربيع العربي، ولئن كان إسقاط النظام العسكري والسياسي هو الهدف المعلن في الهتافات؛ إلا أن أنظمة كثيرة تسقط كتحصيل حاصل أثناء المضي في إسقاط رأس الهرم، أحدها بل وأبرزها: أسطورة المفاتيح الثلاث.
الكثير من العادات والقيود الاجتماعية سقطت في سوريا مع الحرب، وسقوطها في الأماكن المحررة والمحاصرة أشدّ وأكثر تأكيدًا، فكيف لإنسان يرى البيوت تنهار أمام عينيه بلحظة، وأعتى القصور والأبنية تقصف وتردم بتحفها وكل ما فيها بصاروخ أسدي، أن يشترط على خاطب ابنته بيتًا ليزوجه؟ وكيف يمكن أن تغدو السيارة من بنود عقد الزواج في مناطق عاد أهلها لركوب الدواب، في حين أكل التراب ما تبقى من سيارات لم تتحرك منذ عامين؟
الزبادي الصيني
في حديث للناشط أبو صالح الدومي مع عنب بلدي، أكّد أن نسب العنوسة في تناقص مستمر في الغوطة الشرقية، نتيجة التسهيلات التي غدت تحيط مسألة الزواج، فالناس حسب تعبيره عادت لفطرتها وطبيعتها كما كانت، «الأهل صاروا يبحثون عن الأخلاق والسترة فقط، ولم يبق شيء من طلبات أيام زمان مثل البيت أو الزبادي الصيني».
والزبادي الصيني، هو مصطلح معروف لدى أهالي الغوطة يطلق على أوان زجاجية أثرية صينية الصنع كانت تتداول بينهم بعشرات آلاف الليرات السورية، وتتوارثها الأمهات وتتفاخر بها لتكون جزءًا من «جهاز» الفتاة في زفافها، لكن الحرب وما جناه القصف على المنازل والشرقيات والزجاجيات أفقد ما تبقى من هذه الأواني قيمتها، وأخرجها من تراث الزفاف بشكل نهائي.
تسهيل متطلبات الزواج ليس وحده ما يزيد من نسبه في الغوطة، فبالإضافة للمهور المتواضعة والبيوت التي يقدمها «المكتب السكني» لكل شاب مقدمٍ على الزواج، وحفلات الزفاف المنزلية البسيطة، هناك الحاجة للسكن النفسي والتي برزت في ظل الحرب، وعن هذا يضيف أبو صالح «هناك نسبة جيدة من الشباب دون عائلات اليوم، إما جاؤوا من خارج الغوطة أو استشهد أهلهم، هؤلاء لا يبحثون عن زوجة فحسب، هم يبحثون عن زوجة وأم وأخت وعائلة».
«من كبر همو أخد وحدة بعمر أمو»
«من كبر همّو أخد وحدة بعمر أمو»، مثل متوارث معروف في المنطقة الشامية، إذ لطالما كان الفارق العمري سببًا في إفشال زيجات عديدة، توافق وتراضى فيها الطرفان، لكنّ المجتمع لم يكن ليرضى بأن يتجاوز أحد ما سطره الأجداد من قواعد مقدّسة.
ويبدو أن الثورة نجحت أيضًا في أن تتدخل بتعديل قواعد الماضي المقدّسة و «تابوهاته»، فلم يعد العمر مشكلة عند كثير من الناس، إذ يخبرنا أبو صالح الدومي أنه شهد منذ أسبوع زواج شاب بفتاة تكبره بـ 11 عامًا بترحيب من أهله وأهلها والمجتمع، الأمر الذي كان يعتبر قبل اليوم مصيبة تستحق اللطم، ونادرة تتناقلها النساء في مجالسهن الصباحية، لكنه صار أمرًا عاديًا ومقبولًا تمامًا.
زواج عبر السكايب
ليس الأمر تندّرا أو طرفة، فقد حصلت زيجاتٌ تعارف فيها الطرفان وتم فيها التوافق والتجاذب والخطبة و «الرؤية الشرعية» وكتب الكتاب والإيجاب والقبول؛ كل ذلك عبر الإنترنت، وسيلة التواصل التي لا تعرف حواجز ولا حربًا، تقرّب البعيد و»تأتي بالنصيب».
الشابّة «نور» كما تعرّف بنفسها من أهالي الغوطة، تعرّفت على زوجها محمد عبر الإنترنت في نشاط ثوريّ مشترك، لكنّ ظروف الحرب والحصار منعتهما من اللقاء إلا عبر نوافذ الدردشة، ليتصل محمّد بوالد نور ويخطبها، وكل منهما في محافظة تعيش حربًا وحصارًا مختلفًا؛ وتتم الخطبة و «قراءة الفاتحة» وتعارف الأهل عبر الإنترنت.
تخبرنا نور المقيمة مع زوجها خارج سوريا حاليًا «الحرب والثورة ساهما بشكل كبير في موافقة أهلنا، في ظل ظروف أخرى لم يكن يمكن أن يوافق الأهل على زواجٍ عبر الإنترنت، لكن الحصار والحواجز واستحالة الخطبة التقليدية يجعل وسائل التواصل منفذًا لإتمام الحياة، أعرف أربع فتيات في محيطي تزوجن بهذه الطريقة، الحرب لها أحكامها».
فيما يشير محمّد أن لكلّ حالة ما يناسبها، وأن التوافق بين الطرفين والنضج الفكري هو الضامن في حالات التواصل عبر الإنترنت.
عريس في الثالثة والثمانين
لم تعلم والدة أبو نعمان حين أنجبته عام 1932 أنه سيكون الذكر الوحيد في سلالة العائلة، إذ لم تنجب له أخًا، ولم ينجب أبو نعمان من زوجته ذكورًا أو إناثًا.
أربعون عامًا قضاها مع زوجته دون أن يرضى بتبديلها أو أن يجلب لها «ضرّة» تنجب له البنين والبنات، اشترك أبو نعمان بالثورة منذ بداياتها كما معظم أهالي مدينته دوما، وأصيب خلالها عدة مرات لكن الحياة كانت من نصيبه، في حين كان الموت نصيب زوجته إذ لم يستطع قلبها أن يتحمل المزيد من الخوف بعد غارتين جويتين قرب منزلهما.
ولأن «الحي أبقى من الميت» بدأ أقارب أبو نعمان بالبحث له عن زوجة تكون له عونًا وأهلا في هذا العمر، أخبرنا الناشط أبو صالح أن «الحجي» كان له شرطان: «أن تكون زوجته الجديدة أرملة شهيد، وأن تكون ولودًا» وهذا ما كان، إذ خطب له أقرباؤه زوجة شهيد، وساعدوه بتفاصيل العرس والزفاف.
سألنا أبو صالح إن كان ثمة من ترضى بزوج بعمر الحجي أبو نعمان، فأجابنا «الغوطة تغيرت بعد تحررها ولم تبق فيها هذه التعصبات والعادات، المهم هو السترة والأخلاق».
جميع من يتعامل مع أبو نعمان لاحظ الفرق بعد زواجه، إذ صار ضحوكًا اجتماعيًا يحب الحياة ويخرج من بيته، بعد أن كان مكتئبًا لا يكاد يفارقه.
حتى إن مواقع التواصل الاجتماعي ضجّت بصورته، ﻷنه أحب أن يشارك الناس فرحته بزفافه بعد أن شاركهم ألمه بصورة له انتشرت حين أصيب منذ عام تقريبًا.
كل هذه التغيرات في مسألة الزواج على سبيل المثال لا الحصر، تدفعنا للتفكير بقدرة الثورة على إحداث تغيرات في المجتمع، وكم سمحت له بتبديل عادات وخلع قشور لم يتمكّن من خلعها عبر عقود وعقود، رغم كل الخطب والمواعظ التي حاولت تغييرها.
فهل نحتاج أحيانًا لثورات لإسقاط عادات تشلّنا، ليس آخرها عادة المفاتيح الثلاث؟