لا ينتصف الطريق.. جولة أخرى في الحب والحرية

  • 2019/07/21
  • 12:36 م

نبيل محمد

بحث عن مخرج ما من منتصفات الطرقات، أو الأجزاء العالقة فيه، التي يمكث العابر فيها. مخرج من عقبة اللاحلول، من الطرقات الطويلة التي يسلكها منشدو الخلاص فلا يخلصون، ولا تظهر هذه الطرقات أي تباشير ختام، بحث يكرره ياسر خنجر في مجموعته الشعرية الجديدة “لا ينتصف الطريق” الصادرة عن دار المتوسط في ميلانو الإيطالية، ويصرُّ على تكريس تناقضات الوجود، حيث الجمال الذي يخلق موتًا أحيانًا رغم إيهامه لنا بأنه خالق سعادة، الحب الذي يجب أن ننشد به الخلاص فلا يقودنا إلى مبتغانا سريعًا. كل ذلك في خضم ما عايشه الشاعر في سوريا وهو مقيم فيها أو خارجها، بمحتلها (وهو ابن الجولان)، وبقتلتها الحاليين الذين يجوبون السماء بحثًا عن نافذة تطل على مدينة لم تقصف بعد.

“السماءُ ذاتها/ كيف يصلحُ أن تكونَ يدًا للموتِ/وأفقَ الطائراتِ القاتِلَة/ ثم يصلحُ أن تكونَ حلمًا لصبيةٍ يلعبونَ/ وقلوبهم فراشات/ لا بدّ من خطأ وجوديّ”، يكرر الشاعر في خامس كتبه، هذه التناقضات التي تكاد تسكن كل شيء، والتي تجعل مما يتراءى أمامنا في الوجود محض جدل، واختلاف في الرؤية، فمن يرى الثقب نافذة لرؤية ضوء ما ستصاب عينه بالرصاصة التي تخترع الثقب، ومن يمد يديه ليقطف زهرةً جميلة من الأرض، سيباغته لغم مروع فيها، وكذا السماء التي ترسل الصلوات عبرها، تحتضن طائرات حربية وبراميل.

يعجّ نص خنجر بفوضى تفاصيل تتراكم لتشكل المشهد السوري، بمادياته وروحانيّاته، رصاص وقبل وأطفال ومسنّون وسجون ومنازل وأشجار وحدود وأحلام، لا شيء محسوم في تلك الجدليات كلها، فهي عالقة في منتصف الطريق، طريق خلاصها الشخصي والجمعي، وطريق فهمها، وطريق حريتها من أي سلطة تقيدها أو تقتلها.. منتصف الطريق هكذا يبدو، لا يتيح فهمًا كاملًا ولا وعيًا كاملًا لأي قيمة، كل شيء ما زال رهن التفسير طالما أنه لم ينهِ طريقه إلى خلاصه.

“يهمسُ القنّاص في أُذنِ الرصاصةِ فيضَ لعنتهِ/ يُمسّدُ ظهرَها العاري/ يُكفكفُ فضّةَ الأفقِ التي انسكبَت على وهجِ النحاس/ يُزيلُ دمعتَهُ النديّة/ يَنتَقي مِن بينِ آياتِ البلادِ رسولةً/ كانَ الرصيفُ صلاةَ خُطوَتِها وركعَتَها الأخيرةَ قبلَ بابِ البيتِ/ يغرسُ بينَ أضلُعِها/بُذورَ المعدنِ المصقول/ يَثقبُ قلبَها لهبٌ، مدرَّبةٌ رصاصتُه على البوحِ بكلّ ضغائنِ الروحِ/ بكلّ حِرابها وضبابها/ وركام غايتِها الخراب” ومن مثل القناص يمكن أن يضع حدًا واضحًا لا شك فيه لأي تفسير جميل في الحياة، يرسل رصاصه رسلًا تحمل الموت إلى من صادف أن عبر أمام طريقه، هكذا يصادف اللقاء بين الرصاصة والجسد، في منتصف طريق ذلك الجسد إلى فسحة حياة ما. إلى الحرية التي يكرر استحضارها الشاعر بين نص وآخر، ويكرّسها كتمرد واضح في النص على ما شاخ من تفاصيل في منتصف الطريق، وعلى كل الأمور العالقة التي لا تنتهي، هي البوابة الوحيدة المفتوحة دائمًا، والتي لا بد من وجودها، ولا بد أن منتصفات الطرق التي تقود إليها، هي أقدار مجتزأة منها، فهي القدر الأوضح.

“عبثًا تُحاوِل أن تُوقِفَ القُبَل التي/ أَفلتَتْ من شِفَاه العاشقين/  ثمّ صارتْ هي النّهر”، لا يحدد خنجر شكل هذا الحب، وبيئته، ولا يهدف به إلى تكوين أي مجاز شعري، سوى اللاحدود، حيث لا يمكن وقف تدفقه، سواء بأدوات السجن أو الرصاص أو القتل الجماعي أو الفردي، أو تجريد المحب من حبيبه، فالحب هنا هو الهدف النهائي، الذي ينتصف الطريق إليه كي يكتمل، يكتمل تامًا بمعناه وتجلياته، فاقدًا الحاملين به أو الذين لم تتح لهم الطريق الوصول، فماتوا في المنتصف، أو ربما قبل ذلك، ماتوا برصاص من يحاربون ما لا يقدرون على صرعه في الختام، والذين وإن طالت معركتهم مع العشاق، فلن تجدي بأكثر من وقوف طويل في منتصف الطريق.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي