وطن شرف إخلاص

  • 2019/07/21
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

من أين انبعثت هذه التربية العسكرية لضباط وعناصر الجيش الأسدي، الذين يفترض أنهم يصونون كرامة الشعب والوطن السوري، وكيف تحولوا إلى التدمير والتهجير وبيع البلاد للمحتلين، وهم يحملون على سواعدهم شعارات “وطن، شرف، إخلاص”؟

فمن المشاهد الشائعة، التي يعرفها كثير من المجندين السوريين من خريجي الجامعات، دخول طلاب الضباط المتقدمين إلى دورات الطلاب المجندين لينهالوا عليهم بالويلات، فالأنظمة العسكرية، غير المكتوبة، في ثمانينيات القرن الماضي تتيح لهم فعل كل شيء بهؤلاء المجندين، وهم لا يستثنون الأفعال الشنيعة ضدهم، كحمل الحذاء العسكري بأفواههم، وركضهم حفاة وشبه عراة حول مهاجع المتطوعين ممجدين لهم، ومحقّرين أنفسهم بعبارات مخزية، ولا يستثنون بحقهم أي انتهاك، إلا فعل اللواط، الذي قد يمارسه بعض منهم لاحقًا ضد بعض السوريين المعتقلين في أقبية التعذيب.

بعنوان: “المؤسسة العسكرية السورية عام 2019: طائفية وميليشياوية واستثمارات أجنبية”، يتحدث الكتاب الصادر عن “مركز عمران للدراسات” عن جذور هذا التوحش، ويسرد باحثو المركز عبر مئة وثمانية وعشرين صفحة وبالتعاون مع مركز كارنيجي الأمريكي للشرق الأوسط، الخيوط التي نسجها حافظ الأسد في بناء جيش الأسد الطائفي، وكيف صار شعار “الأسد إلى الأبد” هو البديل لشعار الجيش السوري “وطن شرف إخلاص”.

تتناول الدراسة تشكيلات الجيش والولاءات الطائفية فيه، التي لخصها اللواء جمعة الأحمد قائد القوات الخاصة، عندما ألقى خطابه في القابون بعدد من ضباط الجيش، بحسب شاهد عيان من الضباط المنشقين: لقد أخذنا الحكم عنوة، ولن نسلمه حتى لو لم يبقَ منا أحد!

وتبين الدراسة الفوارق بين الشبكة الطائفية التي نسجها الأسد الأب في كل من اللاذقية وريفها، وبين شبكة الأسد الابن التي اعتمدت على إيران و”حزب الله”، وتستعرض قادة الوحدات ومهامهم المطلقة، فقائد الوحدة هو آمرها وأمين فرع حزب البعث فيها، وهو قائد القضاء العسكري فيها، وهو آمر الصرف حتمًا، ومدير الفساد فيها، ما دام هذا الفساد لا يتطرق إلى الولاء المطلق لعائلة الأسد ولزبانيتها.

ففي الجيش، حسب الدراسة، يوجد 27 فرعًا لحزب البعث، و212 شعبة حزبية، وأكثر من 1600 فرقة حزبية. ويوجد فيه حتمًا عشرات الألوف من المخبرين والمفارز المخابراتية التي تراقب الوجوه والكلام العابر وغير العابر بين الجنود، بدلًا من مراقبة حدود الوطن وتأمين سلامة السوريين.

تتطرق الدراسة إلى تحوّل الجيش الأسدي إلى مجرد ميليشيا من ميليشيات الحرب ضد السوريين، فإرث الأمن العسكري والأمن الجوي طعن بمصداقية هذا الجيش، وبوطنيته، وبقدرته على صون كرامة المواطن السوري، ما سهل تسليم البلاد للمحتلين الروس والإيرانيين ولغيرهم، بلا أي شعور بالندم من قبل القادة المرصعة أكتافهم بالنسور وبالنجوم وبالأوسمة الكاذبة.

تتحدث الدراسة عن الميليشيات الطائفية الإيرانية التي تحاول إيران إعادة تموضعها ضمن جيش الأسد كالدفاع الوطني، والدفاع المحلي التي كانت تدرّس قادة متطوعيها على أساس الولاء الطائفي وقدرتهم على كتمان الأسرار (أسرار الخيانات طبعًا)، ولاحقًا أسست إيران اللواء 313 في الجنوب من رجال المصالحات، وكذلك بنت وبشكل مبكر شبكة الميليشيات الأفغانية- الباكستانية- اللبنانية- العراقية التي تنتشر محتلة الأراضي السورية المواقع المهمة، كالفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وعدد كبير من المطارات والثكنات العسكرية، التي تصرف رواتب ضباطها وصف ضباطها الذين صاروا ينوسون بين الولاء للاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي، بعدما أصبح الأسد مجرد فاعل شكلي وخادم لسيدين.

أما الميليشيات الروسية فقد تلخصت بالفيلق الرابع الذي أسسه هلال الأسد، والفيلق الخامس الذي يهيمن عليه النمر، رجل روسيا وبطلها في ترسيخ هيمنتها، والفيلق السادس، المنوي بناؤه بإسهام فصيل “شباب السنة” بقيادة أحمد العودة وأفراد المصالحات في درعا وريف دمشق، بمشورة روسية ودعم إماراتي وسعودي، كترسيخ لنفوذ جديد.

تبين الدراسة أن الجيش الذي حولته فيروسات الأسد الأمنية إلى كيان طفيلي ومتوحش أيام الأسد الأب، يتغير الآن إلى جيش حاضن للاحتلال الأجنبي، ومثبت لأركان التبعية للروس وللإيرانيين.

وتتساءل الدراسة عن كيفية بناء جيش جديد وإعادة الثقة بين الشعب السوري وجيشه، وعن أهمية أن يتضمن الدستور القادم ضوابط راسخة لدور الجيش وبضمانة الاتفاقات الدولية لحقوق الانسان، وعدم محاكمة أي مدني أمام القضاء العسكري، وأن يتبع جهاز القضاء العسكري للسلطة القضائية وليس للإجراءات التي تربي الضباط منذ أول يوم لتطوعهم على الوحشية وعلى كراهية المدني السوري واحتقاره، وكما تشدد الدراسة على العدالة الانتقالية، وعلى مساءلة كل ضابط وكل عنصر، بغض النظر عن انتمائه الطائفي، عن مسؤوليته وعن الجرائم التي ارتكبها أو حرض عليها أو عن المعلومات التي يمتلكها والتي تخص تحويل الجيش إلى مؤسسة معادية للشعب السوري ومناصرة للاحتلال الأجنبي.

هذه الدراسة تتميز بالكثير من المعلومات المستجدة، ومن التاريخ العسكري منذ الخمسينيات، وتتناول المراحل التي توسعت فيها هيمنة الجيش على الحياة المدنية وخروجها عن المحاسبة القانونية.

ورغم أن الدراسة فيها بعض التكرار والتناص بين الفصول، إلا أنها اتسمت بالرصانة والمصداقية وكان يلزمها شمول نواح أخرى تبحث عن منبت الاغتراب والعداء الذي يكنه الجيش للشعب السوري وأسبابه الاجتماعية والاقتصادية. ولعل التألق كان أكثر وضوحًا في الفصول التي كتبها الباحث معن طلاع، وفصل القضاء العسكري في سوريا بين 1950و2019، للباحث أنور مجني، ربما بسبب تخصصهما الدقيق، وهذا لا يقلل أبدًا من جهود الباحثين الآخرين وخدمتهم للشأن العام.

دراسة مركز عمران هذه نافذة مهمة نطل بها على هذا الكيان الغامض والمُستَملك من قبل الآخرين، والذي كنا ندفع رواتب ضباطه وعناصره، وندفع مكافآتهم لشتمنا ولتلفيق تهم الخيانة لنا، ولاعتقال أبنائنا في معتقلاته التي لا تعدّ. فالجيش حاجة وطنية لضمان استقلال البلاد وحريتها، وليس لعبادة الأسد وآل الأسد، أو لبيع الولاءات للمحتلين، وشعارات نبيلة مثل “وطن، شرف، إخلاص”، استحالت اليوم بكل جنون إلى نقيض معانيها على أيدي جيش التشبيح والبراميل المتفجرة.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي