معتز مراد
لا تزال الحالة السورية تستعصي على الفهم سياسيًا واجتماعيًا، فالشعب السوري المكلوم والمشرد والفاقد لكثير من ذويه في سجون الأسد وفي سجون التنظيمات الأخرى، والذي يدعو ربه ليل نهار حتى يُخلّصه من هذه المأساة التي حلت به خلال السنوات الماضية، هناك “شريحة منه” تعمل بوعي أو من دون وعي وكأنها تريد استمرار مأساتها وعدم وضع حدٍّ لها. وأحد أوجه مأساتها أن نظام الأسد لا يزال يستحكمها بكل ورقة تريد الحصول عليها داخل سوريا وخارجها، عن طريق سفارات وقنصليات اتفقَ الجميع أنها وجه آخر لأفرع المخابرات.
وحتى نَصِف المشهد بشكل أدق، فإن عشرات الآلاف من السوريين يضطرون سنويًا للذهاب إلى القنصلية في اسطنبول (وبالتالي مئات الآلاف في دول حول العالم). حيث تشترط الحكومة التركية تصديق شهادات الولادة أو الشهادات الدراسية أو الجامعية الصادرة من سوريا، أو إصدار البيانات العائلية أو جوازات سفر. يُطلَب هذا من كل سوري يضطر لإخراج ورقة من تلك الأوراق في ظروف تمتهن الكرامة. يحصل ذلك أمام الشعب التركي (الذي يتساءل دائمًا لماذا هذه الفوضى هنا) وأمام مئات السيّاح القادمين إلى تركيا، في واحد من أرقى شوارع اسطنبول. حيث شاهدَ الكثير منا كيف تبكي النساء والرجال أحيانًا هناك وهم ينتظرون لساعات طويلة ولأيام ربما تحت أشعة الشمس الحارقة أو في برد الشتاء القارص. الكثير من هؤلاء جاؤوا من ولاياتٍ أخرى ولا يوجد لديهم مكان يأويهم ولا كرسي أو مقعد يجلسون عليه. في حين تعمل آلة النظام الفاسدة على إدخال من يدفع مبلغ إضافي عبر سماسرة متوزعين على أطراف الطريق، مع أن كل السوريين دفعوا ثمن مواعيدهم بالدولار قبل مجيئهم، ليخرج عليهم موظف من القنصلية كل ساعة تقريبًا ويعيد ترتيبهم في الدور ويتهمهم بالفوضى وعدم الالتزام، في مشهد سيريالي غير مفهوم وغير مبرر، وليس له إلا جواب واحد فقط: النظام يريد إذلالنا. إذلال السوريين الذي هو هدف كبير للنظام بحد ذاته، وعندما يتحقق هذا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، يكون السوري قد حصل على أوراقه المطلوبة.
كثيرون أولئك الذين التقطوا صورة بطريقة سريعة ووضعوها على صفحاتهم ليفضحوا ذلك المشهد، وكثيرون أولئك الذين تعاطفوا مع امرأة أو رجل مسن يبكي من عجزه وتَعَبه ولا حيلة لديه، وكثيرون أولئك الذين تعاطفوا مع امرأة تحمل طفلها بإحدى يديها وتمسك الآخر باليد الأخرى ولا مكان تستريح فيه. ولكن لم يقم أحد ويُصوّر فيديو ويبثه مباشرةً للناس ولوسائل الإعلام ويقول فيه على سبيل المثال: لقد تم تمزيق جوازي في القنصلية لأنني معارض للأسد، أو: لقد كسروا هويتي الشخصية، أو: لقد شتموني وطردوني من المكتب وقالوا لي تعال غدًا مع أنني أملك حجز طائرة عائدة مساءً إلى ولايتي حيث أعمل. لنستمر جميعنا عاجزين أمام هذه الحالة، متخبطين في قهرنا وذُلنا وقلة حيلتنا.
تأتي فرصة يمكن من خلالها تسليط الضوء على معاناة السوريين. أحد المعارضين الذي عمل في المؤسسات الثورية والمعارضة سابقًا ويعمل في الإعلام حاليًا، له ما له وعليه ما عليه، يذهب لاستخراج جواز سفر، فيتم التعدي عليه وطرده من مبنى القنصلية من قبل بعض الموظفين فيها بحجة أنه يلبس “سوار علم الثورة السورية”. فيقوم بدوره بنشر فيديو مباشر من أمام القنصلية ليروي قصته وليتحدث عن مأساة عشرات السوريين الواقفين هناك كل يوم، لتبدأ بعدها القنوات الإعلامية “التركية خاصة” بنشر الخبر ويبدأ بعدها التفاعل مع الحدث.
كيف يمكن أن نتصرف عندها نحن السوريين المقهورين المشردين؟! الذين يُطلب منّا بعد كل تلك التضحيات التي قدمناها خلال ثماني سنوات في سبيل حريتنا وكرامتنا، أن نعود ونستخرج ورقة أو إثبات قيد أو تصديق شهادة ولادة أو جواز سفر من مكان يديره نظام الأسد بنفس العقلية المخابراتية التي تحكم فيها بالشعب السوري خلال عقود.
ما أتوقعه أنا “من شعب ينتظر فرصة لتحسين وضعه أو تخفيف مأساته”، هو أن يحشد كل قادر فيه كل إمكانياته لدعم قضيته هذه، ليس من أجل شخص بعينه فهذا ليس موضوعنا أساسًا، بل من أجل مصلحة الشعب كله أولًا وأخيرًا. من أجل أمهاتنا وأبائنا وزوجاتنا وأولادنا، حتى لا يذوقوا مرارة الذل والقهر هناك والعالم يتفرج عليهم، ويُتهموا بأنهم شعب لا يعرف الوقوف في الدور وأنه فوضوي بطبيعته، مع أن موظف القنصلية “المسكين” ينزل كل ساعتين وينادي عليهم: أرجوكم قفوا في دوركم.
لكن ما حصل على وسائل التواصل الاجتماعي يدمي القلب، فمئات السوريين “من رواد تلك المواقع” استغلوا الفرصة للشماتة والتشفي بصاحب المشكلة وكأنهم لن يزوروا القنصلية في الأيام المقبلة ولن يُضطروا لاستخراج أو تصديق أوراق خاصة بهم.
والكثير منهم بدأ نشاطه الفطري في التحليل السياسي، فما حصل قد يكون “بظ” إعلامي تعمّده هذا المعارض ليقول: شوفوني هذا أنا أتحدى موظفي القنصلية، أو أن هناك ما يُحاك للضغط على النظام في هذه الورقة تحديدًا، أو أن القضية لا ينبغي أن تصبح قضية عامة في الوقت الذي هي قضية شخصية تمامًا. ومن المؤكد أن القصة ليست عفوية، ومسكين هذا الشعب السوري، أسير مغامرات الطامحين وأفعال المراهقين السياسيين.
آخرون بدؤوا يتساءلون: “طالما أنك يا هذا تعرف إجرام النظام، فلماذا تذهب إلى قنصليته، ولماذا وضعت سوار علم الثورة؟!”، “مشيها وخلّصنا وبلا هالشوشرة”.
هذه الشوشرة التي كنا نتمناها أو ننتظرها دائمًا، حتى يتم التركيز على قضية تمس حياتنا جميعًا (من يحمل الإقامة المؤقتة أو الكملك التركي أو أي كرت يتبع للأمم المتحدة) أصبحت نوعًا من “البظ” أو “الشوشرة” التي آلمت رؤوس هؤلاء.
الله الله يا سوريين. في الوقت الذي “يمكن” أن نضغط ونؤثر في قضية من أجل مصلحتنا وتخفيف معاناتنا وتوفير بعض أموالنا واسترداد كرامتنا، ينشغل بعضنا في التشفي بأحَدنا وشَتمه وتحليل موقفه ودوافعه السياسية.
الله الله يا سوريين، يا بعضنا، من يساعدنا إن لم نساعد أنفسنا؟! من يَفزع لنا إن لم نفزع لأوجاعنا؟! لماذا نحزن إن أهاننا الغريب طالما أننا نستمتع بإهانة بعضنا. من سَيُجبِر حكومات دول عربية تعيد السوريين من مخيماتهم على أرضها إلى نظام الأسد طالما أننا ننتقم من بعضنا بهذه الطريقة. كيف سيرحمنا الله وفئة منا يَلعَنون بعضهم بعضًا؟!
طبعًا لن أنسى حملة التفاعل والتضامن مع القضية من قبل كثير من السوريين، ولكنها قطعًا دون المستوى المطلوب لجعل هذه القضية مسألة عامة تؤتي ثمارها لعموم السوريين.
في مشهد لا ننساه نحن السوريين والعالم معنا، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في 15 من تموز 2016، اتحد قادة الأحزاب جميعهم (رغم خلافاتهم وخصوماتهم وتشهيرهم ببعضهم على وسائل الإعلام) ضد الانقلاب العسكري، اتحدوا من أجل مستقل الشعب التركي ومصلحته. هذا المشهد الذي نُمجده ونحترمه ونحكيه في جلساتنا الخاصة والعامة، كان علينا أن نحاول استنساخه في قضيتنا الحالية وفي كل قضية عامة، أن نتوحد وينسى كل واحد منا مشكلته مع الآخر، أن نتوحد خلف هذه القضية من أجلنا ومن أجل أولادنا وأحبابنا، في مسعى لإنهاء واحدة من مآسينا.
ولكن التجارب تكشف عوراتنا وأمراضنا، فحتى هذه اللحظة ليست لدينا القدرة على العمل من أجل مصالحنا، وربما ليست لدينا القدرة على العمل من أجل تخفيف أوجاعنا. ولا تزال الأهواء والمصالح الشخصية تتحكم بخيارات “بعضنا أو الكثير منا” وتوجهاته ومواقفه.
وإنني واثقٌ تمامًا أنه لن تقوم لنا قائمة حتى نبدأ بتقديم المصلحة العامة على المصالح والخلافات الشخصية، ولن تقوم لنا قائمة حتى نتعلم كيف نعمل مع بعضنا من أجل قضيةٍ فيها مصلحتنا وإن اختلفنا وتخاصمنا. وواثق في نفس الوقت أن ما يحصل معنا هو مزيد من التجارب، التي تُسقِط معها الكثير من الأسماء في امتحان تقديم المصالح والنزاعات الشخصية على المصلحة العامة، هؤلاء الذين يَدّعوُن في كل لحظة التصاقهم بالقيم الثورية والإنسانية.
وعلى كل سوري وصلت له القضية ولم يتفاعل معها وكان قادرًا على ذلك، أن يعلم أنه جزء من المشكلة، وعليه أن يتحسر يومًا على فرصة جاءته ولم يستثمرها لصالحه.
أخيرًا، أشرت في مقالات سابقة إلى نجاحات السوريين الرائعة حول العالم، ولكنها نجاحات فردية، ولا تنعكس إلا على أصحابها مع أنها تدعو للفخر وتمنحنا الكثير من الأمل والتفاؤل. وإذا أردنا أن تعود نجاحاتنا على مستقبلنا جميعًا، فلا بد من تنظيم أنفسنا بالشكل الذي نصبح فيه قادرين على اغتنام الفرص والأحداث وعمل مبادرات ومشاريع تخدم مصالحنا كشعب كامل.
وعندما يتحقق هذا، عندها سيتغير كل شيء.
–