عندما يتردد على مسمعك في بعض مناطق الشمال السوري “نفّذ المروحي يا شباب”، تركض من تلقاء نفسك إلى أي مكان يمكن الاحتماء به. هذا النداء، الذي يصدر عن قبضة لاسلكية عسكرية منتشرة بكثرة في ريفي إدلب وحماة، كثيرًا ما أنقذ حياة عشرات المدنيين الذين يستهدفهم الطيران الحربي بشكل شبه يومي بالصواريخ والبراميل المتفجرة.
بين جموع الناس وبجانب أحد المنازل في مدينة كفرزيتا، التابعة لريف حماة الشمالي، وقف الطفل محمد فرحًا بنجاته من برميل متفجر سقط بجانب منزله دون أن يخلّف أضرارًا. محمد، ذو الـ 12 ربيعًا، اعتاد كلما سمع تعميم تحليق الطيران المروحي في سماء المدينة أن يسرع وإخوته إلى ملجأ في بيته بعد أن ينبه أهله وجيرانه.
“من أسبوعين نزل برميل حدنا، ووقع حيط البيت على أخواتي وانجرح أخي بإيده”، كان ذلك في لحظة غفلة لم يسمع خلالها محمد النداء الذي أطلقه المرصد عبر القبضات اللاسلكية بينما كان منهمكًا مع والده في العمل.
أحد سكان مدينة كفرزيتا، ومالك لدكان صغير فيها، أخبرنا أن نداءات القبضات “أضحت جزءًا من الحياة اليومية”، وأنها غدت وسيلة “للبقاء على قيد الحياة”.
القبضة في الشمال السوري ليست عسكرية
وإن كانت القبضات اللاسلكية صممت للاستخدام العسكري، إلا أنها في المناطق السورية المحررة أضحت وسيلة لا غنًى عنها بالنسبة للمدنيين.
خالد، المقيم في مدينة خان شيخون في ريف إدلب، يعمل طوال النهار خارج منزله، قال إن انقطاع الكهرباء والإنترنت جعل من القبضة وسيلة لتسليته في الليل، يستمع من خلالها إلى الأغاني الثورية التي تبث عبر ترددات مختلفة، ويتواصل مع أصدقائه في المدن والبلدات المجاورة.
ليس ذلك فحسب، فالناشطون في المدينة يقولون إن الدفاع المدني يعتمد على القبضات عند التوجه إلى مناطق سقوط البراميل المتفجرة لإسعاف الجرحى أو انتشالهم من تحت الأنقاض، أو لإطفاء الحرائق التي تنشب جراء القصف، كما يستخدمها ناشطو الإغاثة لتأمين الطرقات أثناء عملهم وتنقلهم بين المدن والبلدات لتوزيع الحصص الغذائية، وهذا ما أكده المواطنون الذين التقت بهم عنب بلدي في ريف إدلب:
القبضة.. وسيلة حماية
أبو حسام، وهو من سكان مدينة كفرزيتا في ريف حماة الشمالي، روى لعنب بلدي قصته، التي كانت فيها القبضة وسيلة لنجاته من الموت:
“اعتدت التنقل بين البلدات في الليل بحكم عملي؛ كنت قد أخفضت صوت القبضة ووضعتها أمامي في السيارة وانطلقت في رحلتي ككل يوم، إلى أن سمعت تعميمًا بأن مروحية تحمل رشاشًا تحلق في الأجواء فوق منطقة وجودي؛ أطفأت أضواء سيارتي وركنتها جانبًا وانتظرت”.
مرت دقائق الانتظار ثقيلة على أبي حسام، وما زاده خوفًا رؤيته لشرارة ارتداد رصاص الطيران المروحي على إسفلت الطريق الذي كان يسير عليه؛ “بعد أن تأكدت من ابتعاد المروحية لم أحتمل الانتظار أكثر فتناولت القبضة وقبلتها بجنون؛ شعرت بأنها فعلًا كانت من أنقذني من موت محتم”.
يشير عدد من أهالي مدينتي كفرزيتا وخان شيخون الذين التقيناهم إلى أهمية القبضة اللاسلكية كونها جزءًا من حياتهم اليومية ووسيلة أساسية لحمايتهم:
القبضات تنقل التحذيرات من المراصد
ويرى العاملون في مراصد ريف حماة الشمالي أن أساس عمل القبضة هو رصد تحركات الطيران الحربي والمروحي من المطارات عند خروجه، تفاديًا للأضرار التي تنجم عن قصف المناطق المحررة بشكل مستمر.
الشيخ أصلان، شاب في العشرينات من عمره، يعمل في أحد تلك المراصد، تحدّث عن كيفية التواصل والتنسيق مع زملائه في المراصد الأخرى، وشرح بعض الرموز التي يستخدمونها في الرصد:
وزير الاتصالات: القبضات غير آمنة
وزارة الاتصالات والنقل والصناعة في الحكومة السورية المؤقتة كانت أعلنت من خلال بيان أصدرته في الثاني من نيسان الحالي، بُطلان قرار مجلس الشعب السوري، التابع لنظام الأسد، مؤخرًا حول مشروع قانون إعادة هيكلة الشركة العامة للاتصالات استنادًا إلى القانون رقم 18 بتاريخ 09/06/2010، المتضمن تحويل المؤسسة العامة للاتصالات إلى شركة مساهمة تعمل وفق قانون التجارة والشركات.
وفي لقاء لعنب بلدي مع وزير الاتصالات والنقل والصناعة، محمد ياسين نجار، قال إن وضع الاتصالات أصبح أكثر وضوحًا، خاصة بعد تحرير مدينة إدلب، مشيرًا إلى أنه “أصبح هناك منطقة متصلة في الشمال السوري، الأمر الذي يسهل التعامل معها كقطاع اتصالات، وقد رسمت الوزارة حاليًا استراتيجية للتعامل مع المناطق المحررة على كافة الأصعدة سواء فيما يخص الاتصالات الأرضية أو الخلوية أو الإنترنت، ليس فقط في الشمال وإنما في الجنوب السوري أيضًا”.
ونوه الوزير نجار إلى أن “ملفات المشاريع في الوزارة جاهزة بانتظار التمويل، كما أنها من الممكن أن تتحول إلى قطاع منتج، من خلال استيعاب الكفاءات البشرية الثورية التي يمكن أن تقوم بدور إيجابي في المرحلة القادمة”.
وفيما يخص القبضات اللاسلكية المستخدمة في المناطق المحررة، أشار نجار إلى أن “الاتصالات عبر القبضات غير آمنة، وخاصة للقوى للعسكرية، كما أنها تحتاج إلى خدمة بشكل دائم، إذ لا يمكن أن تكون فوضوية كما هي عليه الآن، لأنها جزء من سيادة الدولة”، مضيفًا “عندما تستقر الأمور أكثر، ويصبح أداء الحكومة على الصعيد الوطني داخليًا، يمكن استخدام هذه القبضات وحصر الترددات بفئات واختصاصات محددة”.
من جهته قال عبد الله نجم، مدير المكتب الإعلامي للمجلس المحلي في مدينة خان شيخون إن القبضات اللاسلكية أصبحت وسيلة الاتصال الوحيدة في ظل انقطاع الهاتف الأرضي وشبكة الاتصالات الخلوية، “نستخدمها لتسيير أمور المجلس في التواصل مع النقاط الطبية والمراصد وعمال النظافة والدفاع المدني من أجل توزيع المهام وإدارة العمل”.
وأضاف نجم “نعمل في المجلس على التواصل مع الجهات المعنية والجهات الداعمة كوزارة الاتصالات لمحاولة إصلاح مركز الاتصالات الأرضية، ولكننا إلى الآن لم نتلق شيئًا غير الوعود من الحكومة المؤقتة”.
“القبضة هي حياتنا ورغيف خبزنا”
دخلت القبضة اللاسلكية في أدق تفاصيل حياة سكان الشمال السوري، فأصبحت “بديلًا ناجعًا” في العديد من الأمور الحياتية، كما أشار الأهالي، الذين وجدوا فيها وسيلة حياة بعد أن كانت أداة عسكرية تستخدم في المعارك، ويرجو المواطنون هناك عودة الاتصالات إلى المنطقة في ظل غياب الخصوصية والراحة أثناء استخدام القبضات، كما يتمنون أن يأتي اليوم الذي ينظرون فيه إلى سماء مدينتهم للاستمتاع بجمالها، لا أن يتتبعوا المروحيات والطائرات ويهربوا خوفًا منها.
–
* أعدت هذه المادة بدعم من البرنامج الإقليمي السوري