أقمشة الخوف

  • 2019/07/14
  • 10:12 ص

إبراهيم العلوش

نرتدي أقمشة الخوف السوداء منذ طفولتنا، خوف من الآخر، وخوف من أنفسنا، وخوف على أنسابنا، وخوف على ديننا، وخوف على ماضينا الذي صار بعيدًا عنا.. وخوف.. وخوف.. فهل آن الأوان مع ثورات الربيع العربي أن نخلع عنا هذا الخوف الذي يغتصب حياتنا؟

عندما خرج السوريون في آذار عام 2011 مطالبين بحريتهم وهم يهتفون “الشعب السوري ما بينذل” انقلبت معادلة الخوف، فالنظام المخابراتي الواثق من سيطرة الخوف على النفوس وعلى العقول، تفاجأ بالمعطيات الجديدة وبالهبّة الشعبية المستخفة بكل الأهوال التي علّق صورها في المدارس وفي الدوائر الرسمية وفي المعتقلات والسجون، والتي اعتبرها الضامن الأكيد لوجوده، ولاستمراره لمئة سنة مقبلة.

لكن الخوف سرعان ما عاود تدفقه ليبتلع أعدادًا كبيرة من السوريين، الذين حملوا السلاح مع النظام طمعًا بانتصاراته المقبلة وخوفًا من الآخر الذي قد يحاسبهم على ما فعلوه سابقًا بالسوريين من نهب وسلب واستغلال، ما أعاد صناعة الخوف بأساليب وبوسائط جديدة، مثل البراميل المتفجرة والصواريخ التي تعبر أنحاء البلاد من الغرب إلى الشرق من أجل قصف فرن يتجمع حوله الناس، إلى القتل العمد والمباشر على الحواجز أو في كواليسها القريبة.

لكن الخوف لم يمتد سواده على كل السوريين، فظلوا متشبثين بمطالبهم، مثلما ظل النظام متشبثًا بسلطة الخوف ومطالبته للدولة والمجتمع أن تعاود الاستسلام لآليات الخوف، تحت طائلة تدمير المدن والتهجير واستمرار الحرب ضد السوريين لخمس سنوات على الأقل كما قال بشار الأسد في أحد خطاباته المبكرة.

ولكن الخوف انبثق أيضًا من مصادر جديدة هي التنظيمات الجهادية التي تستخف بالناس وبمطالبهم وتجعل مبتغاها هو إعادة الخلق إلى الماضي السحيق، واستعمال الإسلام أداة للقتل وللتعذيب في سجون داعش والنصرة ومشتقاتهما، ونُشرت تهم جديدة ضد الناس حيث استبدلوا تهمة الكفر والردة بتهمة الخيانة التي ابتكرها النظام، وما إلى ذلك من التهم التي تنسج المزيد من شباك الخوف بين الناس وبين أفراد العائلة الواحدة  وفي نفس الإنسان ذاته.

ما الذي يجعل بلادنا مرتعًا للخوف ولبضائعه السوداء، ولماذا نحن راكعون وساجدون للحكام والشيوخ والشرعيين ورجال المخابرات، لماذا نحن خائفون أينما اتجهنا وأينما كنا وكيفما فكرنا، خائفون في بلادنا، وخائفون خارج بلادنا على الحدود وفي المدن الغريبة، ما الذي يجعل منا ضحايا مؤكدين للخوف، ومنذ أي عهد أو في أي عمر من تاريخ بلادنا أو من أعمارنا الشخصية تمكن الخوف منا كل هذا التمكن، ولماذا ارتد الكثير منا إلى نظام الخوف ليخدمه وليخضع لمعاييره رغم لذة الحياة الحرة وغريزة التحرر من الخوف؟

أسئلة تحتاج منا إلى التفكير والتدبر ورمي الكثير من الأسمال السوداء عن أجسادنا وعن عقولنا، وعلينا مراجعة طفولتنا وبيادر الخوف التي ملأتها، ومراجعة مدارسنا ومناهجنا، ومفاهيمنا للصراع من أجل تحقيق الذات وانتزاع الحق بالعمل وبالتفكير وبالمواجهة، وعدم الركون للشكوى والبحث عن الشفقة، وعلينا رمي غليون المؤامرة المخدّر للعقول الذي يسلبنا احترامنا لذاتنا ونحن نتجلبب بأردية الخوف الرثة.

السوريون في الداخل خائفون من الاعتقال على الحواجز وخائفون من تغير الولاءات للنظام بين المحتلين الإيرانيين والروس، وخائفون من الأمريكيين والأتراك، وخائفون من المقاتلين الأجانب في صفوف داعش والنصرة والبي بي كي.

أما السوريون في الخارج فهم خائفون من التعليمات والقوانين التي تطلقها الدول المضيفة لمخيماتهم البائسة، ومن تبدل وضعهم القانوني بين وهلة وأخرى وسط العنصرية التي تلف وجودهم في لبنان وفي غيرها من بلدان الجوار العربي وغير العربي.

السوريون في أوروبا الذين نالوا حق الحماية أو حق اللجوء، لا يزالون خائفين هم أيضًا من تغير القيم والتقاليد ومن طلاق نسائهم، ومن تحرر أولادهم وعدم اعتمادهم عليهم في العيش وفي التربية، حيث تتولى المدارس والجامعات والشوارع والمنظمات الأهلية التدخل فيها.

خوف أمامنا في دول اللجوء وخوف خلفنا في بلدنا مع النظام ودول الاحتلال التي استدرجها لتدميرنا، خوف يتغير في ألوانه وفي سماكاته وفي بريقه، لكنه يعزز تربية الخوف التي تعلمناها منذ ولادتنا في البيوت وفي المدارس وفي المنظمات الشعبية التي كانت بؤرًا للمخبرين وللتهديدات بالاعتقال وبالطرد من العمل، وكانت إعادة التقييم تشمل الجميع وتجعلهم دائمي الخوف، سواءً من قبل معارضي النظام أو مؤيديه الذين استنزفوا ذواتهم وقيمهم من أجل إثبات الولاء لنظام لا يشبع من نشر الخوف.

ليس أمامنا جميعًا غير التخلص من هذا الخوف، ومن صناعته التي هدرت كرامتنا وجعلتنا أشباه بشر في نظر حكامنا، وفي نظر المحتلين، وفي نظر التنظيمات الجهادية وغير الجهادية التي تعتمد الخوف والغلبة كأسلوب للحكم والسيطرة على الناس.

ثورة الحرية التي أطلقت طاقات السوريين وحشدتهم ضد النظام منذ عام 2011، ورغم الإخفاقات الكبيرة التي منيت بها، هي الدواء الذي لا بد منه من أجل الخلاص من هذا الخوف وما يسببه من شلل عقلي وفكري في حياتنا، وهي التي ستعيدنا إلى الطرق الإنسانية في التعامل مع مشاكل الحياة ومتطلباتها بالوسائل التي تتبعها الأمم والشعوب المتحررة، وبالأساليب الخالية من التخويف والإرهاب، وليس أمامنا غير استعادة روح انطلاقة ثورة الكرامة، والتشبث بقيم شهدائنا التي ماتوا من أجلها، والاتحاد جميعًا للمطالبة بسوريا الجديدة والحرة الخالية من الخوف ومن أقمشته البالية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي